عندما أتابع مسيرة المدن المتقدّمة فى البلاد التى اعتمدت برامج التنمية البشرية، وساهمت فى تبنّى الشباب الواعى وأصحاب الأفكار الإبداعية، وفتحت الأبواب واسعاً أمام المبتكرين الجُدد، ولم تتردّد فى تنفيذ المشاريع الهامّة مهما بلغت من «البساطة»، فكلّى يقين أن الأفكار البسيطة قدّمت أعظم المفاجآت التى تخدم البشرية، ولكن للأسف البشرية تنقسم إلى فريقين، فريق يفكّر، ويحاول، ويجرّب ويبتكر، ويجتهد، ويصل، وفريق يستهلك، ويستهلك، ولا علاقة له، بأدنى جهد من العلّم، أو التفكير، أو الاجتهاد.
اعتدتُ أن أستقرئ المعطيات المتوفّرة بأدقّ تفاصيلها، وأدوّن أبسط الملاحظات التى بتراكمها كنت أحصل على استنتاجات رائعة، ورائدة، تقودنى إلى أفكار جديدة، تبهرنى بالدرجة الأولي، وما إن أناقشها، مع الفريق الذى اخترته بعناية فائقة، لتكون نقاشاتنا المفتوحة مبنية على الاحترام أولاً، وعلى الثقة ثانياً، وعلى الودّ دائماً وأبداً، لنستطيع أن نتمّم الأفكار المطروحة ونحن نتداولها من جميع الجوانب، وأتقبّل كل المقترحات برحابة صدر، ومحبّة، وتقدير لأيّ اجتهاد يبذله أى واحد من المقررين معى فى المجموعة، التى استطاعت أن تبلغ العالميّة ليس ادّعاء، وليس خداعاً بل بشكل موثّق ومؤثّر ومكرّس وموجود فى قوائم التوثيق العالمية وفى سجلات الشرف الدوليّة، ولستُ هنا بصدد الحديث عن مجموعة أبوغزالة ولكنّ السياق حكم أن أستشهد بتجربة عميقة، شاهدها التاريخ الطويل، والجغرافيا الممتدّة عبر القارات، والإنجازات الحاضرة نتيجة الإيمان واليقين فى العمل، والإخلاص فى الأمل بالغد الأفضل.
أقول هذا كلّه أعلاه، ويحزّ فى نفسي، أنّ بلاد الشام، بلاد الطاقة، بلاد الخصب، بلاد الخير، بلاد الجمال، مشغولة فى «تبديد» الطاقات لا تزويدها منذ سنوات وسنوات، والطاقات هنا، ليس الغاز المتغلغل فى طبقات التربة، وليس النفط المُدّخر فى باطن اليابسة والماء على حدّ سواء، وليس فى «السلكون»، والفوسفات، وغيرها من المواد الخام التى بوسعها أن تشغّل مصانع العالم أجمع، بل أتحدّث عن الطاقات «الشبابيّة» فبلادنا ولّادة، ونساؤنا أمّهات رائدات ورائعات، ورجالنا رجال أشرافٌ وأشدّاء، يتناسلون الجيل تلو الجيل، ويقدّمون للمجتمع أفضل إنسان، لايزال يحمل قِيَم الخير، ومبادئ الإنسانّية، ومعتقد الدين الحنيف والمنطق، ويحملون الأخلاق وهذا الأهم، إذ كما يقول الشاعر أحمد شوقي: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا..
وأمّتنا لم تذهب بل تتعاقب، وتتوالي، وتتجدّد مع كل جيل، وكل نسل، وتظلّ الأخلاق رديفاً هاماً لحماية هذه المجتمعات التى ينقصها فقط، حسّ النهوض، وشعور المسئوليّة، ووجوب التطوّر، وعزيمة التقدّم، وإرادة المحاولة، فمن يصدّق أن بلداً صغيراً كـ»سنغافوره» مثلاً، تصبح مدينة المستقبل، بإخراجها من إطار الدولة المستهلكة، إلى صميم الدولة الذكيّة.. حيث واجهت بمفردها، ومفكريها، ومسئوليها، محدوديّة المساحة، وندرة الموارد، بابتكارات تقنيّة، التى جعلت من نفاياتها، ومن يصدّق أن نفاياتها استطاعت إنارة المدينة بأكملها، وبالمواد البلاستيكية الصلبة المستخرجة من ذات النفايات، استطاعات أن تعبّد أفضل الطرق فى العالم، وتمدّ أمتن وأفضل الجسور أيضاً، كل ذلك بفضل تعزيز الطاقة الفكرية، واستثمار الأدمغة، والإخلاص للوطن.
وهذا لا يتمّ، بالتفكير وحسب، بل بحسن التدبّر، ونيّة التدبير الصادقة، التى يملكها المسئول، والنماذج التى يمكن الحديث عنها للتطوير والتحديث للاقتراب من المستقبل الذى لا نلمس منه فى بلادنا غير الاستهلاك، ولا نشارك فيه على قدمٍ أو ساق، يحتاج إلى إعادة نظر، فى الكفاءات التى تعجّ فى البلاد، وفى المناهج التى تلجم معظم الشباب الإبداعى والشابّات، فالإبداع لا يقتصر على الذكور، فامرأة كالمهندسة العراقيّة «زها حديد»، استطاعت أن تغزو أميركا، وأوربا، وحتى كوكب اليابان كما يُقال، بأفكارها الهندسيّة الإبداعية وبصماتها المشرقة، التى لاتزال، وستبقى لأجيال وأجيال، على إنجازاتها المبدعة، ليس فقط لأنها كانت على هذا القدر من الكفاءة، بل لأنّ المناخات التى عملت فيها، كانت سليمة ومعافاة وتقدّر الإمكانات وتعزّزها، وتدعمها، وتفسح لها المجال على أوسع نطاق، لخدمة الحالة والهالة الإبداعية دون تردّد أو عقبات، وهذا ما نحتاجه تماماً فى بلادنا..