سيسجل التاريخ للتحالف الصهيو- أمريكى فى حرب غزة انه ابتكر وارتكب ومايزال جريمتين ضد الإنسانية لم يسبقه إليهما أحد من عتاة الإجرام على مر التاريخ السياسى والإنساني، لا فى نوعيتهما ولا فى بشاعتهما.
لقد استخدمت إسرائيل تجويع الفلسطينيين كسلاح فى الحرب ضدهم لكسر إرادتهم وتركيعهم فمنعت دخول قوافل المساعدات التى تحمل الطعام إليهم من أى منفذ.
وعندما أثار ذلك الضمير الإنسانى وأشرفت غزة- وفق تقارير مؤسسات دولية محايدة على دخول مرحلة المجاعة وسمحت إسرائيل بدخول ما يقل حتى عن الحد الأدنى من الطعام استعان الجيش الإسرائيلى بما تسمى «مؤسسة غزة الإنسانية» وهى مؤسسة أمريكية لتتولى توزيع فتات الطعام على الجائعين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشباب وشيوخ.
وعلى يد هذه المؤسسة «الإنسانية» تحولت تجمعات الجائعين الذين ينتظرون الطعام إلى مصائد للموت والإعدام فما أن تكتمل تجمعاتهم حتى تنهمر عليهم قذائف الجيش الإسرائيلى لتقتل العشرات منهم يوميا.
هؤلاء مدنيون لم يخرجوا لقتال وجائعون لم يتلقوا طعاما طول اليوم وبعضهم لعدة أيام ولا يحملون أسلحة سوى الأوانى التى يحلمون بالحصول فيها على الطعام، يتحولون إلى «أهداف» عسكرية فى شريعة آلة الحرب الإسرائيلية وبمشاركة مؤسسة «إنسانية» أمريكية.
الابتكار الإسرائيلي- الأمريكى الأكثر حداثة فى سجل الجرائم ضد الإنسانية وضد السلام هو تحويل فرص التفاوض إلى مصائد للموت وساحات الوساطة لوقف الحرب إلى ساحات للاغتيال.
ما حدث فى دولة قطر الشقيقة أمس الأول هو نموذج مطور من حيث الفكرة لما قامت به إسرائيل وأمريكا الشهر الماضى ضد إيران.
إيران كانت منخرطة مع أمريكا فى مفاوضات غير مباشرة حول برنامجها النووي.. وأتمت الجولة الأولى من المفاوضات وتم تحديد موعد ومكان الجولة الثانية.. أى انه كان هناك باب مفتوح لحوار سلمى يفترض أن يمتد وأن يأخذ فرصته مع حسن النوايا الذى يغلق أى مجال للخديعة أو الغدر أو اللجوء للعمل العسكري.. لكن الذى حدث ان إيران تلقت الضربة العسكرية لمنشآتها النووية ليلة موعد انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات.
فى قطر أول أمس تم تطوير الفكرة.
قدم الوسيط الأمريكى من خلال مبعوثه فى الشرق الأوسط ورقة جديدة تتضمن أفكارا للإسرائيليين والفلسطينيين حول التهدئة وشروط وقف الحرب وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين.. إلى آخره.
وذهب الوفد القيادى الحمساوى إلى الدوحة- بلد الوساطة للإطلاع على الورقة الأمريكية ومناقشة ما تعرضه من أفكار قد تقود إلى مخرج من الوضع الحالى فى غزة.
وتختار إسرائيل هذا التوقيت الذى يجرى فيه «تحرك سياسي» وجهد دبلوماسى فلسطيني- قطرى لالتقاط أى أمل فى إنهاء الحرب، لشن عمليتها العسكرية بعشر مقاتلات حربية على أرض الوساطة لاغتيال أعضاء الوفد الحمساوى وبعلم من البيت الأبيض باعتراف الرئيس الأمريكى الذى قال انه علم بالعملية لكنه يرى أنها لا تصب فى مصلحة قطر أو أمريكا.
ليس المهم هنا هل نجحت العملية العسكرية فى تحقيق هدفها باغتيال الوفد القيادى أم فشلت، ولا عدد الشهداء الفلسطينيين والقطريين الذين كانوا ضحايا؟
المهم هو الأصل وهو أن الساحة العالمية تشهد الآن اجتياحا غير مسبوق، وخارج حدود المنطق والأسس الحاكمة للقانون الدولى والإنسانى والعلاقات الدولية، يمكن إذا لم يتم وقفه فورا أن يسبب عواقب وخيمة على مستقبل النظام الدولى والعلاقات الدولية.
استخدام التجويع كسلاح للإبادة الجماعية وللتهجير الطوعى والقسرى لشعب كامل من أرضه.
استخدام عملية توزيع الطعام على المدنيين الجائعين كطعم لقتلهم بالسلاح.
استخدام المفاوضات والحوار كوسيلة لاستدراج الخصوم لضربهم كمشروع أو اغتيالهم كأفراد.
استباحة أرض الوساطة من جانب أحد طرفى الحرب، وبعدم ممانعة من جانب الوسيط الأمريكى وانتهاك سيادة الدولة الوسيطة- قطر لاجهاض عملية تهدئة فى مهدها.
هذا مسلك إجرامى يهدد مستقبل البشرية ونظامها الدولي، لأنه ينسف ثقة المجتمع الدولى كله فى مفاهيم المساعدات.. الحوار.. التفاوض، بعد أن تحولت- بالبلطجة الإسرائيلية وبالاستغلال العسكرى لها- إلى ألغام وإلى وسائل لاستدراج الخصوم إلى مصائد الموت والقضاء عليهم.
أكثر من ذلك.. فإن الجريمة التى تعرضت لها قطر، تنال من مفهوم الوساطة بشكل عام كوسيلة من وسائل التهدئة بين الأطراف المتحاربة.. لقد تحول الوسيط القطرى إلى ضحية وهو ما ينال مما ينبغى أن يتمتع به الوسيط من حصانة وسيادة واحترام من جانب الأطراف المتحاربة جميعا التى اختارت وسطاءها بملء إرادتها.
إننا أمام لحظة فارقة.. لأن السكوت على هذا السلوك يمكن أن يصبح جريمة أكبر.