فى تراثنا كنوز من مجامع الكلم والحكمة تصلح دستور حياة لبناء مجتمع عفيّ إذا ما جرى التمسك بها وتطبيقها بصورة عملية لتنتج سلوكًا سويًا وخلقًا قويمًا ما أحوجنا إليه فى عالم اليوم.
فالصادق لا يحلف، لأن الصدق أبلغ من القسم، فإذا استقرت هذه الخصلة فى النفوس سادت الثقة بين الناس وزال الشك والريبة. وقد قال الله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» «التوبة: 119». وحين يغيب الصدق تخسر المجتمعات أساس التعامل النزيه، وتتحول الحياة العامة إلى ساحة من الكذب والمخاتلة. فهل ما زلنا نرى الصدق قيمة حاضرة فى واقعنا؟ وماذا خسرنا حين غاب عن أسواقنا ومؤسساتنا وإعلامنا؟
الواثق لا يبرر، لأن الثبات على الحق يغنيه عن كثرة الاعتذار. قال تعالي: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» [آل عمران: 159]. واليقين إذا ترسخ فى القلوب أشاع الاطمئنان فى المعاملات، بينما التردد والاعتذار الدائم يزرعان الارتباك ويهزان ثقة الناس ببعضهم. فهل فقدنا فى زماننا هذا الوضوح والحسم؟ وكيف يمكن أن نستعيده ليقوم مجتمعنا على الثبات لا على المراوغة؟
المخلص لا يندم، لأنه يعمل لله لا للناس. والإخلاص هو سرّ قبول العمل وبركته، وقد قال الله تعالي: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» [البينة: 5]. فإذا خبت شعلة الإخلاص، تحولت الجهود إلى مظاهر خاوية، وبغيابه خسرنا الثقة فى نيات بعضنا بعضًا. فهل الإخلاص ما زال محرّك أعمالنا اليوم؟ وكيف نُعيد له مكانته ليصير هو الأصل لا الاستثناء؟
الكريم لا يملّ، لأنه يجد فى البذل حياة لقلبه فما جاع فقير إلا ببخل غني. قال الله تعالي: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ» [البقرة: 261]. فإذا ساد الكرم، عمّ التكافل، وخفّت وطأة الحاجة، وامتلأت القلوب رحمة. أمّا إذا غاب الكرم، انتشر الشحّ والأنانية وضاقت صدور الناس ببعضهم. فأين نحن من هذه الروح فى مجتمعاتنا؟ وهل لا يزال الفقير يجد من يسأل عنه ويحنو عليه؟
المحب لا يملّ، لأن الحب يصبر ويعفو ويؤلّف بين القلوب. قال تعالي: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» [الأنفال: 63]. وحين تغيب المحبة تحلّ الخصومة، ويتشتت الناس بين جماعات متنافرة، فلا ينهض لهم بنيان. فهل لا تزال المحبة هى اللغة السائدة بيننا، أم غلبت لغة المصالح والتحزّب؟ وكيف نعيد للحياة الاجتماعية روحها الدافئة التى تجعلها مأوى للسكينة لا ساحة للصراع؟
لا تهُن فتُستضعف، ولا تتكبّر فتُستثقل، وكن بين التواضع والعزّة. وقد قال الله تعالي: «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا» [الإسراء: 37]. والتواضع إذا ساد، عاش الناس متآخين، وإذا طغى الكِبْر تحوّل المجتمع إلى طبقات متنازعة، كلٌّ فيها يتعالى على الآخر. فهل ما زال التواضع خلقًا مشهودًا فينا، أم ضاع بين استعلاء متكبر وخنوع ضعيف؟
احترامك للناس لا يعنى حاجتك إليهم، وإنما هو مبدأ من دينك وتربيتك. وقد أوصى الله فقال: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» [البقرة: 83]. فإذا شاع الاحترام بين الناس، قلّت الصراعات وسادت المودة، أمّا إذا انحدر الخطاب، تفككت الروابط واشتعل الخلاف. فهل بقى الاحترام سمة حوارنا، أم صار العنف اللفظى والجفاء هو اللغة الأكثر تداولًا؟
لا تخبر الناس كم تحفظ من كتاب الله، بل اجعلهم يرون أثر القرآن فيك. قال تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ» [فاطر: 29]. فالقيمة ليست فى عدد السور، وإنما فى أثرها على القلب والسلوك. وما المجتمع إلا مرآة لأخلاق أفراده، فإذا صار القرآن واقعًا معاشًا، غدا المجتمع جنّة من الرحمة والعدل. فهل لا يزال كتاب الله حاضرًا فى سلوكنا كما هو حاضر على ألسنتنا؟
ابتسم للجميع، فالبسمة صدقة، ولها وقع السحر فى القلوب. قال تعالى عن نبيه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ»
[آل عمران: 159]. فإذا سادت البشاشة، تلاشت الجفوة، وإذا غابت، تحوّل الناس غرباء فى ديارهم. فهل بقيت الابتسامة سمة تواصلنا، أم غلب علينا العبوس والصرامة؟
ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه:
يا بُني، بئر شربت منه فلا ترمِ فيه حجرًا، فالوفاء أساس العلاقات، ومن جحد المعروف عاش منبوذًا.
عوّد لسانك الاستغفار، ففيه فتح للرزق والرحمة، «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا».
عصفور فى قدرك خير من ثور فى قدر غيرك، فبالرضا يعيش المرء حرًّا، وبالطمع يبقى أسيرًا.
لا تذكر إساءة الناس إليك ولا إحسانك إليهم، لتبقى صافى القلب بعيدًا عن المنّة والغلّ.
إن افتخر الناس بكلامهم فافتخر بصمتك، فالصمت وقار والكلمة أمانة.
اعمل بيقين، فإن ضعف اليقين ضعف العمل، وما قامت حضارة إلا على إيمان راسخ.
ولا تأكل شبعًا على شبع، فإن فى الاعتدال صحة وفى الإسراف هلاك.
اتخذ تقوى الله تجارة، فإنها تجارة لا تبور وربحها رضوان الله.
جرّب صديقك عند غضبه، فإن أنصفك فهو وفيّ، وإلا فاحذره.
واحفظ بصرك فى بيوت الناس، ولسانك فى مجالسهم، وقلبك فى صلاتك، ففيها جماع مكارم الأخلاق.
ويبقى السؤال الأعمق: هل تتحقق هذه الخصال فى مجتمعاتنا اليوم؟ وماذا خسرنا يوم غابت قيم الصدق والإخلاص والكرم والمحبة؟ وكيف نستعيدها لنردّ إلى الأمة روحها الأخلاقية التى هى الأساس المتين لأى حضارة أو نهضة حقيقية؟ إن الجواب يبدأ من الفرد، فإذا اهتدى الفرد بهذه الوصايا، صلح المجتمع كله، وإذا صلح المجتمع، ارتفعت الأمة من جديد.