لم يكن استدعاء الحديث عن الرجال العظام صنّاع نصر «أكتوبر» نوعا من المراثى لهؤلاء الأبطال، فالرجال ـ فقط ـ ترحل ولا تموت! بل هو مراجعة واجبة لـ«دروس النصر» فمازالت أسراره تتكشف من «أكتوبر المجيد» تلك المعركة التى سبقتها معارك الاستنزاف أو «الألف يوم» والتى أحدثت تغيرا نوعيا فى تكتيكات النصر فى حالتى الهجوم والدفاع بعد اكتشاف تراتبى لحيل العدو أو تكتيكاته التى تدرب عليها واحترفها فكانت مكشوفة لأقصى مدى لرجال أكتوبر مما أفقد العدو مزية هذه التكتيكات بل وحيّدها فى ميدان المعركة أيا كان نوعها، ومن تلك التكتيكات التى أورثنا علمها أبطال أكتوبر هى فرض العدو إرادته لإدارة معاركه خارج حدوده الجغرافية وذلك من خلال فرض مفهومه ـ الخاص جدا ـ عن الحدود الآمنة، فقد فرض المصريون إرادتهم فى إدارة معركة «أكتوبر» وأنهوا فكرة «الحدود الآمنة» من جانب العدو الصهيونى فى اتجاه مصر، وتم تنفيذ المهمة المحددة التى صاغها التوجية الاستراتيجى للرئيس السادات، وحرمت العدو من تطبيق نظريته تجاه مصر.
لكن بالعودة إلى العدو الصهيونى فهى الدولة ـ مجازا ـ الوحيدة العضو بالأمم المتحدة التى ليس لها دستور ينص على حدودها السياسية، بل ليس لها دستور من الأساس (!) مما يُنبئ بحقيقتها العدائية تجاه جيرانها العرب، ومن منطلق مبادئ تأسيس الكيان التى شارك فى صياغته الرموز الأوائل ومنهم «ديفيد بن جوريون» رئيس الوزراء الصهيونى الأول وهو من أسس لنظرية الأمن القومى للصهاينة والذى بُنى على مبدأين مركزيين؛ هما: جيش الشعب، والثالوث الأمني؛ إذ يتحقق الأول من خلال فرض التجنيد الإجبارى على جميع الإسرائيليين كجنود احتياط، فيما تأسس الثانى على ثلاثة أسس؛ هي: الردع، والإنذار، والحسم، ويتحقق الردع بشن هجمات انتقامية مدمرة تستهدف الخصم، مما سيردعه عن مهاجمة إسرائيل تجنبًا لرد فعلها، فيما يتحقق الإنذار المبكر بإيجاد قوة استخبارية متفوقة يمكنها التنبؤ بنوايا الخصم وإحباط خططه قبل أن يقدم على تنفيذها، فيما يتحقق الحسم بتقصير مدة الاشتباك من خلال توجيه ضربة قوية وحاسمة للعدو.
كما كان تصريح رئيسة وزراء «الكيان الصهيوني» جولدا مائير 1971 – إن الحدود الدولية لإسرائيل تتحدد حيث يتوطن اليهود -، وكذلك فنّد مشروع رئيس وزراء «الصهاينة» مناحيم بيجن عن الضفة الغربية فى فلسطين الذى أعلنه فى 28/12/1977 والذى يؤدى إلى ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كامل الأرض المحتلة، يرسمان صورة أقرب لحقيقة مفهوم قادة الصهاينة عن الحدود الآمنة، وبخاصة بعد أن أبلغ بيجن الولايات المتحدة الأمريكية فى 1978 أن القرار 242 لا ينطبق على الضفة الغربية، على أساس أنها أراض «محررة – لامحتلة» … وهنا الهرطقة بعينها، فلم تحدد دولة الاحتلال حدودها بل كان اعتراف الأمم المتحدة بها مؤسسا على قبولها بقرار التقسيم، أو قرار تقسيم أراضى فلسطين ـ العربية التاريخية ـ والذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29/11/1947 وتضمن رسماً واضحاً لحدود الدولتين المقترحتين، وهما «العربية واليهودية» أى أن منظمة الأمم المتحدة لم تعبر قط عن قبولها لأية حدود «لإسرائيل» غير الحدود اليهودية المرسومة على خريطة ملحقة بقرار التقسيم، وقد قُبلت إسرائيل عام 1949 عضوا فى الأمم المتحدة على أساس إعلانها الاستعداد لتنفيذ قرار التقسيم.
ثم جاء القرار 242 فلم يرسم حدوداً جديدة واضحة، وإنما أكد حق كل دولة فى منطقة الشرق الأوسط – فى أن تعيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها حرة من أعمال القوة أو التهديد بها-، وادعت إسرائيل الهرطقة بأن القرار 242يعنى – من بين ما يعنيه – انسحاب القوات الإسرائيلية من أجزاء من الأراضى التى احتلتها فى عدوان 1967 لا منها جميعاً.