اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هى الروح التى تسكن وجدان الأمة، والوعاء الذى حفظ تاريخها وديانتها وأدبها وذاكرتها الجمعية. هى لغة القرآن الكريم، ولغة الشعر والأمثال والحِكم التى صاغت الشخصية المصرية عبر قرون طويلة. لكننا اليوم نقف أمام مفارقة مؤلمة: جميعنا يزعم أنه يحب العربية ويجلّها، نرفعها فى الشعارات ونحتفل بها فى المناسبات الرسمية، لكن الواقع يكشف أن حبنا فى الغالب حب مزيف، حب باللسان لا بالفعل، يتجلى فى كلمات منمقة، بينما الممارسة اليومية تشهد على إهمالٍ وخذلانٍ كبير.
من يتأمل حال مدارسنا وجامعاتنا يرى الخلل بوضوح. طرق تعليم اللغة العربية لا تزال أسيرة الحفظ والتلقين، لا تفتح للعقل آفاقًا، ولا للقلب أبوابًا نحو الجمال. الطالب يُثقل بالتمارين والقواعد الصارمة، يتعامل معها كمعادلات رياضية باردة، فيفقد شغفه ويخرج من حصة اللغة وكأنها عقوبة لا متعة. إن حب اللغة لا يتجسد فى الكتب فقط، بل فى أن نجعل الطفل يعيش مع النصوص، يتذوق الصور البيانية، ويستمتع بموسيقاها الداخلية، فيرى أن العربية ليست ماضياً ثقيلاً، بل أفق رحب قادر على التعبير عن الحاضر والمستقبل.
ولعل الأخطر من ذلك هو صورة اللغة فى الإعلام والدراما والفن. فقد كان المسرح المصرى فى القرن العشرين منبرًا يصدح بالعربية الفصحى فى مسرحيات توفيق الحكيم ويوسف إدريس، وكانت السينما فى بعض مراحلها قادرة على إظهار قوة العربية فى الحوار الراقي. أما اليوم، فكثير من الأعمال الفنية تُقدَّم بلهجة عامية مبتذلة، أو بكلمات دخيلة تكاد تطغى على الحوار، وكأن العربية عاجزة عن مواكبة العصر. هنا يتجلى الخذلان بأوضح صوره أن نظهر للعالم أن لغتنا غير قادرة على حمل قصصنا وأحلامنا، بينما الحقيقة أن جمالياتها قادرة على أن تمنح أى عمل فنى بُعدًا إضافيًا ورونقًا خالدًا.
العربية ليست لغة عادية؛ إنها لغة تمتلك من المرونة ما يجعلها قادرة على استيعاب كل العلوم والفنون. هى بحر واسع، فيه الاستعارة والتشبيه والكناية والجناس، وفيه موسيقى عذبة قادرة على لمس الروح. حين نغوص فى هذا البحر نكتشف أن اللغة ليست قواعد نحوية جافة، بل إبداع وجماليات، وأنها لا تقل فى روعتها عن أى لغة عالمية أخري. لكننا ـ مع الأسف ـ نترك هذا الكنز العظيم على الرف، ونكتفى بالسباحة على السطح، بينما ندعى أننا نحبها.
الحب المزيف يتجلى أيضًا فى تعاملنا اليومى مع العربية على وسائل التواصل الاجتماعي. فالأجيال الجديدة تستبدل حروفها برموز وأرقام، وتخلط العربية بالإنجليزية بطريقة هجينة، فتضعف الصلة مع لغتهم الأم. وما لم نتدارك هذا الانفصال، فسنجد أنفسنا أمام أجيال لا تقرأ نصًا أدبيًا دون عناء، ولا تستطيع التعبير عن نفسها بلسان عربى سليم.
الحب الحقيقى للغتنا يظهر فى أفعالنا لا فى أقوالنا: حين نحدث طرق تدريسها بما يتناسب مع روح العصر، ونستفيد من التكنولوجيا لجعل تعلمها ممتعًا وتفاعليًا، وحين نُعيدها إلى الدراما والسينما والمسرح لتكون لسانًا للفن الراقى لا لغةً منسية. الحب الحقيقى يظهر حين نشجع القراءة الحرة، ونحتفى بالكتّاب والشعراء الذين يحيون جماليات العربية فى أعمالهم، وحين نمنح الإعلام دورًا فى رفع مكانتها بدلاً من تهميشها.
إن العربية ليست مجرد كلمات، إنها البيت الذى نسكنه والجذور التى نحيا بها. من يفرط فيها يفرط فى هويته وكرامته قبل أن يفرط فى لغته. وإذا ظللنا نمارس هذا الحب المزيف ونخذلها فى التعليم والفن والإعلام، فإننا سنستيقظ يومًا على واقع مُرّ نجد فيه أنفسنا غرباء فى أوطاننا، نبحث عن هوية ضائعة. التحدى اليوم أن نُثبت أن حبنا للعربية حقيقي، وأن نعيدها إلى مكانتها المستحقة، لا بالزهو فى الكلمات، بل بالفعل الصادق والإرادة الحقيقية.