المشهد الدولى غارق فى ازدواجية فاضحة للمعايير وانتهاك سافر لأحكام القانون الدولى
نعيش انحدارًا يقوِّض أسس السلم والأمن الدوليين ويعيد البشرية لأجواء الفوضى
ما يحدث يكرس استخدام القوة كوسيلة لفرض الإرادة على حساب الشرعية والعدالة
الواقع المتردى أضعف فاعلية العمل الدولى المشترك ومجلس الأمن أكبر مثال
تآكل مصداقية المنظمة الدولية دفع العديد من الدول للمطالبة بإلغاء حق «النقض»
«الفيتو» تحول لأداة عزلت مجلس الأمن عن الواقع الميدانى وعن أداء دوره
تداعيات الوضع الدولى المتردى طالت مكتسبات الاقتصاد العالمى وتهدده بالانهيار
أكد السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، أن المشهد الدولى اليوم بات غارقا فى ازدواجية فاضحة فى المعايير، وانتهاك سافر لأحكام القانون الدولى دون أدنى اكتراث أو مساءلة فى ظل إفلات ممنهج من العقاب وتصاعد مقلق للنزعات الأحادية والتدابير الحمائية، مشيرا إلى أن هذا الانحدار يقوض أسس السلم والأمن الدوليين ويعيد البشرية إلى أجواء الفوضى واللا قانون، ويكرس استخدام القوة كوسيلة لفرض الإرادة وتحقيق المآرب على حساب الشرعية والعدالة.
جاء ذلك فى بيان السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى ألقاه خلال القمة الاستثنائية لرؤساء الدول والحكومات الأعضاء فى تجمع «البريكس» أمس عبر الوسائل الافتراضية، التى انعقدت بدعوة من جمهورية البرازيل الاتحادية، بصفتها الرئيس الدورى الحالى للتجمع لمناقشة المستجدات الدولية الراهنة، وتبادل الرؤى حول التطورات العالمية وتعزيز التنسيق بين دول التجمع لمواجهة التحديات المتسارعة التى تلقى بظلالها على الدول النامية بوجه خاص.
وأعرب الرئيس السيسى عن خالص الشكر والتقدير، للرئيس البرازيلى «لولا دا سيلفا» على قيادته الحكيمة وجهود بلاده الحثيثة فى رئاسة تجمع «البريكس» خلال العام الجارى التى توجت بالنجاح الكبير لقمة «ريو» التى عقدت فى يوليو الماضى والمخرجات المهمة الصادرة عنها، موجها الشكر للرئيس البرازيلى على دعوته لعقد هذا الاجتماع المهم لتبادل الرؤى فى توقيت دقيق يشهد فيه العالم صراعات تهدد العمل الدولى متعدد الأطراف بل ومنظومة الأسس والقواعد والمبادئ التى يستند إليها النظام الدولى منذ عام 1945.
وقال السيد الرئيس إنه لم يكن من المستغرب فى ظل هذا التراجع أن تتفاقم الأزمات وتشتعل الصراعات وتندلع الحروب وأن ترتكب جرائم مروعة من قتل وتدمير ستظل وصمة عار لا يمحوها الزمن تطارد من تلطخت أيديهم بها، وقد أضعف هذا الواقع المتردى فاعلية العمل الدولى المشترك، وقيد قدرة الدول والمؤسسات الأممية على التصدى للقضايا الملحة التى تستوجب أعلى درجات التنسيق والتعاون.
وأضاف أنه يعد وضع مجلس الأمن الدولى مثالا صارخا على ما آل إليه حال المجتمع الدولى من عجز وتراجع وهو ما انعكس سلبا وبشكل مباشر على ثقة الدول فى منظومة الأمم المتحدة لاسيما فى أداء مجلس الأمن ذاته، وقد دفع هذا التآكل فى المصداقية العديد من الدول إلى المطالبة بإصلاح شامل لآليات عمل المجلس بما فى ذلك الدعوة الصريحة إلى إلغاء حق النقض «الفيتو» ذلك الامتياز الذى تحول بمرور الزمن إلى أداة لعزل المجلس عن الواقع الميداني، وجعله عاجزا عن أداء دوره المحورى فى تسوية النزاعات ووقف الحروب رغم كونه الهيئة الأممية المنوط بها حفظ السلم والأمن الدوليين.
وتابع الرئيس أنه إضافة إلى ما تقدم امتدت تداعيات هذا الوضع الدولى المتردى لتطال مكتسبات النمو الاقتصادى العالمى مهددة إياها بالانهيار، حيث يشهد العالم اليوم تباطؤا ملحوظا فى معدلات النمو الاقتصادى وتراجعا فى حركة التجارة الدولية، وتآكلا فى الاهتمام بقضايا التنمية والتمويل الإنمائي، وذلك فى وقت تتسع فيه الفجوات التنموية والتمويلية والرقمية فى الدول النامية، وتتفاقم أعباء ديونها وتضعف قدرتها على النفاذ إلى مصادر التمويل الميسر، إلى جانب محدودية تأثير هذه الدول فى منظومة عمل المؤسسات المالية الدولية.
وأكد أنه من هنا تأتى أهمية تجمع «البريكس» باعتباره محفلا دوليا بازغا يشق طريقه بثبات نحو ترسيخ التعاون البناء بين دوله انطلاقا من مبادئ المنفعة والاحترام المتبادل وتعزيز العمل متعدد الأطراف.
وأشار إلى أن اجتماع اليوم يكتسب أهمية استثنائية إذ يشكل فرصة سانحة للتشاور وتبادل الرؤى حول سبل تعميق التكامل بين دولنا وتنسيق الجهود لتخفيف وطأة الأزمات الراهنة بما يعزز من قدرة دول البريكس على الإسهام الفاعل فى صياغة نظام دولى أكثر توازنا وإنصافا.
وقال الرئيس السيسى إنه فى مواجهة هذا الواقع المقلق، أود أن أشير إلى عدد من الأولويات، التى نرى ضرورة الأخذ بها:
أولا: تعميق التشاور بين دول التجمع، حول القضايا ذات الاهتمام والأولوية فى مختلف المجالات بما يتيح فهما أدق لمواقف كل دولة وشواغلها، ويسهم فى تقريب وجهات النظر، والتوصل إلى أرضية مشتركة، تعزز من فاعلية «البريكس» على الساحة الدولية.
ثانيا: حتمية توظيف الميزات النسبية التى تزخر بها دولنا فى إطلاق مشروعات مشتركة فى القطاعات الحيوية وعلى رأسها الطاقة الجديدة والمتجددة، والبنية التحتية، والصناعات التحويلية، والزراعة، والبحث العلمى والتكنولوجيا والابتكار، والذكاء الاصطناعى إلى جانب تعزيز التعاون بين القطاع الخاص فى دولنا.
ثالثا: توسيع آفاق تعاوننا الاقتصادى والمالي، لاسيما بتسوية المعاملات التجارية والمالية بين دولنا، باستخدام العملات المحلية، ودعم توفير التمويل، من خلال بنك التنمية الجديد بالعملات الوطنية.
رابعا: تكثيف التنسيق بين دول التجمع حول إصلاح الهيكل المالى العالمى ومعالجة إشكالية الديون، ودعم توفير الحيز المالى للدول النامية ونفاذها للتمويل الميسر، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز تمثيل الدول النامية فى حوكمة المؤسسات المالية الدولية، وعملية صنع القرار بها.
خامسا: دفع التعاون فى مواجهة تداعيات تغير المناخ، ورفض السياسات الأحادية التى تتخذها بعض الدول تحت ذرائع بيئية مع التأكيد على ضرورة وفاء الدول المتقدمة بالتزاماتها فى تمويل جهود الحفاظ على المناخ، وتوفير أدوات التنفيذ للدول النامية من تمويل وتكنولوجيا وبناء قدرات، بما يمكنها من تحقيق أهدافها المناخية.
وأضاف أنه فى هذا الإطار نتطلع إلى استضافة البرازيل للدورة الثلاثين لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ فى نوفمبر المقبل باعتبارها محطة مفصلية لدفع هذه القضايا الملحة التى تمس مصالح الدول النامية بشكل مباشر.
وأكد أن التحديات الاقتصادية التى يشهدها عالمنا اليوم لا تنفصل عن التوترات الجيوسياسية المتفاقمة إذ تشهد منطقة الشرق الأوسط أزمات متلاحقة، ألقت بظلالها الثقيلة، على السلم والاستقرار الدوليين، وعرقلت مسارات التنمية المستدامة، وفى القلب من هذه الأزمات تستمر الحرب الإسرائيلية الغاشمة على الشعب الفلسطينى الشقيق فى قطاع غزة، وبالتوازى مع الانتهاكات السافرة التى يرتكبها الاحتلال فى الضفة الغربية، بما فى ذلك «القدس» فى واحد من أخطر الصراعات، وأكثرها دلالة على ازدواجية المعايير، وانتهاك قواعد القانون الدولي.
وتابع أن إسرائيل قد دأبت منذ ما يقرب من عامين على ممارسة أبشع صور القتل والترويع مستخدمة التجويع والحرمان من الخدمات الصحية، كسلاح ضد المدنيين، مما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة بلغت حد إعلان الأمم المتحدة حالة المجاعة فى قطاع غزة، ولم تكتف إسرائيل بذلك بل مضت فى توسيع عملياتها العسكرية، إمعانا فى تدمير مقومات الحياة بهدف إجبار الفلسطينيين على مغادرة أرضهم، وتنفيذ مخطط التهجير القسرى وتصفية قضيتهم العادلة.
وقال الرئيس السيسى إنه من هذا المنطلق نجدد موقف مصر الثابت والرافض بشكل قاطع لأى سيناريو يستهدف تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم، تحت أى ذريعة لما يمثله ذلك من محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، ووأد حل الدولتين، وتوسيع رقعة الصراع، وتهديد منظومة السلام فى الشرق الأوسط.
كما جدد إدانة مصر ورفضها التام لمحاولات فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وللمخططات الرامية إلى بناء مستوطنات جديدة بهدف تغيير الوضع القانونى والديموجرافى للأراضى الفلسطينية المحتلة، وفرض أمر واقع يقوض حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.
وقال «لقد بذلت مصر، ولا تزال، جهودا مضنية للتوصل إلى وقف فورى لإطلاق النار، وضمان نفاذ المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الرهائن والأسرى تمهيدا لبدء ترتيبات اليوم التالى لإدارة القطاع وإعادة إعماره».
وأضاف «قد أعدت مصر، خطة شاملة للتعافى المبكر وإعادة إعمار غزة، حظيت باعتماد عربى وإسلامى وتأييد واسع من الشركاء الدوليين وهى الخطة التى أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن إعادة إعمار القطاع ممكنة، مع بقاء الفلسطينيين على أرضهم..كما تعتزم مصر فور التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، استضافة مؤتمر دولى لإعادة إعمار غزة، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، لحشد الدعم والتمويل اللازمين لتنفيذ هذه الخطة الطموح».
ودعا الرئيس السيسى إلى دعم الجهود الجارية لإحياء مسار حل الدولتين والاعتراف بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها «القدس الشرقية» بما يرسخ السلم والاستقرار فى الشرق الأوسط والعالم أجمع بصورة عادلة ومستدامة.
وفى ختام كلمته أعرب الرئيس السيسى عن تطلعه لأن يتوج هذا الاجتماع بتجديد الالتزام الصادق والراسخ بتعزيز العمل الجماعى وتكثيف التنسيق بين دولنا، لمواجهة التحديات الراهنة بكل مسئولية ووعي، والسير قدما نحو تحقيق الأولويات المشتركة، والأهداف المتفق عليها فى إطار هذا التجمع، بما يستجيب لتطلعات شعوبنا فى الرخاء والتنمية المستدامة، والعيش الكريم فى ظل عالم أكثر عدالة وتوازناً.