قراءة تحليلية فى أحداث الأسبوع
إن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف -والذي أشرف بالانتماء إليه منذ ما يقرب من عشر سنوات- ليس فقط صرحًا عظيمًا استمد قوته من اسم الأزهر الشريف ودوره المحوري في العالم الإسلامي وغير الإسلامي على حد سواء، وإنما هو مشروع عظيم ذو قيمة، يحمل على عاتقه مسئولية الحفاظ على أمانة العقل والفكر أو على الأقل المساهمة في الحفاظ عليه… المرصد منوط بالرصد بهدف متابعة الأحداث المرتبطة بسياق التطرف والإرهاب واليمين المتطرف وملف اللاجئين ومعاداة الإسلام وخطاب الكراهية في مختلف المجتمعات العالمية، وكل هذا من اجل توضيح الصورة وما وراءها بربط الأحداث ببعضها، بغرض نقل المشهد الحقيقي للمتابع دون مبالغة أو تزييف لتكوين رؤية شاملة لدى المتلقي والأهم من ذلك هو الوصول إلى بعض الحقائق ألا وهي أن التطرف؛ الذي نكافحه والإرهاب الذي أخلفه هذا التطرف ليس من الدين بشيء وإنما هو صناعة كبيرة لها أهداف وأبعاد وجذوروتداعيات. هذا المقال هو الحلقة الأولى من سلسلة مقالات أسبوعية ترصد أهم ما يتابعه مرصد الأزهرووحدة التقارير الدورية من قضايا عالمية، مع تحليل أبعادها وتداعياتها.
صراع يتجاوز الميدان إلى الوعي
لم يعد المشهد الدولي اليوم مجرد صراعات تقليدية تُدار في ميادين المعارك، بل أصبحنا أمام حرب متعددة الأبعاد؛ حرب على الوعي والرأي العام، تُستخدم فيها الأدوات الإعلامية والمنصات الرقمية بقدر ما تُستخدم الأسلحة. وفي هذا السياق، يفرض التطرف نفسه كخطر متجدد، بينما تظل القضية الفلسطينية في قلب المشهد، اختبارًا حقيقيًا للقيم الإنسانية والعدالة الدولية.
من خلال متابعة التطورات خلال الفترة من 30أغسطس حتى 5 سبتمبر 2025، يتضح أن قضايا العالم باتت مترابطة: مأساة غزة، وتصاعد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وتنامي خطاب الكراهية والإسلاموفوبيا في الغرب، فضلًا عن النزاعات التي تمزق السودان وسوريا، كلها تؤكد أننا أمام عالم يبحث عن بوصلة جديدة للسلام والعدالة.
لم يعد الدعم الغربي لإسرائيل أمرًا مسلّمًا به. فمن قاعات السياسة إلى شوارع أوروبا، أخذ هذا الدعم في التآكل، ليحل محله ضغط شعبي ودبلوماسي متزايد. فقد أصبحت مأساة غزة نقطة تحول أخلاقية كبرى، حيث خسرت إسرائيل معركة الرأي العام على نطاق عالمي غير مسبوق. حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أقر بهذه الحقيقة حين قال: «إسرائيل تكسب الحرب عسكريًا لكنها تخسرها في العلاقات العامة».
ما عزّز هذا التحول هو انتشار الصور والمعلومات عبر الفضاء الرقمي، والتي كشفت الفجوة بين الرواية الإسرائيلية والواقع الميداني. فبدلًا من أن تكون المنصات الرقمية أداة للدعاية الإسرائيلية، انقلبت عليها، خصوصًا مع منشور رسمي مثير للجدل من إسرائيل عبر منصة «إكس» يحرّض ضد المسلمين في أوروبا، ليكشف انفصالًا عن الرأي العام العالمي وازدواجية المعايير في إدارة المحتوى. وفي أوروبا، يتسارع المسار نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية إذ أعلنت بلجيكا نيتها الاعتراف في خلال اجتماعات الأمم المتحدة، وفرنسا أكدت أن باريس ستتخذ هذه الخطوة في 22 سبتمبر، مع توقع أن تحذو دول أوروبية أخرى حذوها.هذه المواقف لم تأتِ فرادى، بل جاءت كاستجابة مباشرة للمأساة الإنسانية في غزة والانتهاكات المتكررة للقانون الدولي، وهو ما يضع إسرائيل أمام عزلة دبلوماسية متنامية.
لم يتوقف التضامن عند أوروبا. فمن برشلونة انطلق «أسطول الصمود» في أضخم محاولة لكسر حصار غزة، بينما صعّدت كولومبيا والأرجنتين والمكسيك خطواتها الشعبية والدبلوماسية ضد الكيان المحتل، ليؤكد ذلك أن القضية الفلسطينية تحولت إلى اختبار عالمي لقيم العدالة وحقوق الإنسان.
ثانيًا: خارطة التطرف.. أشكال متعددة وتهديدات متشابكة.
التطرف لم يعد محصورًا في العنف المسلح، بل أصبح مفهومًا متعدد الأوجه: من الصراعات الأهلية الدامية، إلى خطابات الكراهية، إلى السياسات المقيدة للحريات الدينية، ففي السودان تتقاطع الحرب الداخلية مع الكوارث الطبيعية، لتدفع الآلاف إلى الموت جوعًا أو بالكوليرا، في واحدة من أعتى الأزمات الإنسانية عالميًا، وفي سوريا، يستمر نزيف المجازر على يد تنظيمات مثل داعش مع محاولات تفكيك خلاياها في مخيمات النزوح، في مشهد يعكس فشلًا دوليًا في إنهاء دوامة العنف، وفي فرنسا، تثير حوادث الطعن التي ينفذها قاصرون مخاوف من تطرف الأجيال الجديدة، ما دفع السلطات لتعزيز وحداتها الأمنية، بينما يظل المسلمون يواجهون تحديات مرتبطة بإغلاق المساجد والقيود على الشعائر.أما في النمسا فيتصاعد الجدل حول قوانين تستهدف الحريات الدينية، مثل إعادة طرح حظر الحجاب، وسط اعتداءات على المسلمات المحجبات، وهناك دراسات أوروبية حديثة أكدت أن صعود الأحزاب المتطرفة لا يهدد فقط الاندماج الاجتماعي، بل يعوق حتى التقدم العلمي ويغذي الانقسام الداخلي.
في كندا، تعرضت مساجد ومراكز إسلامية لهجمات عنصرية، بينما أثارت قوانين مثل «حظر الصلاة» في كيبيك جدلًا واسعًا حول حدود العلمانية وحرية المعتقد، وفي إسبانيا، تحولت الحرب على غزة إلى وقود للدعاية اليمينية الشعبوية، التي تستغلها لتأجيج خطاب «الغزو الإسلامي» ضد المهاجرين والمسلمين. ولا يزال أكثر من مليون لاجئ روهينجي في بنجلاديش يواجهون مستقبلًا مجهولًا، وسط عجز الدولة المضيفة عن تقديم الدعم دون مساعدة دولية، ما يجعل قضيتهم مرشحة لمزيد من التصعيد إذا لم يتحرك المجتمع الدولي.
إن ما يبدو قضايا متفرقة:العدوان على فلسطين، خطاب الكراهية في الغرب، الأزمات في السودان وسوريا، معاناة الروهينجا ليس سوى وجوه مختلفة لصورة واحدة من التطرف، قوامها:
غياب العدالة الدولية.
ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات.
استغلال الأزمات لصعود الخطاب المتطرف.
وبهذا، فإن مواجهة التطرف عالميًا لن تتحقق عبر حلول أمنية فقط، بل تحتاج إلى معالجة جذرية للصراعات، ووقف الانتهاكات، وبناء خطاب إنساني بديل يعزز العدالة والسلام. وفي ظل هذا المشهد المترابط، تتضاعف مسئولية المؤسسات الفكرية والدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، وتفكيك الروايات المتطرفة وبناء جسور الحوار والتسامح. وفي المقابل، يبقى المجتمع الدولي أمام اختبار تاريخي: إما أن يتحمل مسئوليته لإنهاء الصراعات ودعم القضايا العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، أو أن يترك العالم رهينة لدوامة التطرف والعنف.