فى أزمنة الأزمات الكبرى، يظهر الخيط الرفيع الفاصل بين المواقف الحقيقية وبين محاولات التضليل.. ما نشهده اليوم من تحريض متواصل ضد مصر، عبر دعوات تارة لإغلاق سفاراتها، وتارة أخرى للهجوم عليها بحجة «فتح المعبر»، لا يمكن اعتباره مجرد تعبير عن غضب عابر، بل هو جزء من لعبة سياسية أوسع تُدار بخبث على حساب القضية الفلسطينية وعلى حساب أمن مصر.
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلى الأخير، والآلة الإعلامية الموجهة تحاول أن تزرع فى وعى الناس فكرة أن مصر هى العائق أمام دخول المساعدات أو خروج المدنيين من غزة. بينما السؤال البديهى: أليس الأجدر أن تُوجَّه هذه الغضبة إلى سفارات دولة الاحتلال، التى تُبيد وتجوّع وتقتل، بدلاً من أن تُوجَّه إلى السفارات المصرية؟ هذا الانحراف فى بوصلة الغضب يكشف نوايا خفية، ويؤكد أن هناك من يعمل على إزاحة الأنظار عن الجريمة الأصلية، ويدفع بالرأى العام العربى والإسلامى نحو صدام جانبى يخدم العدو وحده.
إن الدعوات التى تحاول شيطنة الدور المصرى ليست سوى جزء من مخطط قديم متجدد: الضغط لفتح معبر رفح وفق شروط إسرائيلية تؤدى فى النهاية إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.. هذا هو جوهر «الحل» الذى يُطرح من خلف الكواليس، ويُراد له أن يُفرض كأمر واقع.. لكن الحقيقة أن مصر، منذ البداية، رفضت وتصدت لهذه الفكرة، واعتبرتها خطاً أحمر يمس الأمن القومى ويمس القضية الفلسطينية فى عمقها. فتهجير الفلسطينيين من أرضهم هو بمثابة دفن لحق العودة وتصفية للقضية بالكامل.
قيادة مصر السياسية، وعلى رأسها السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، لم تتعامل مع هذا التحدى بسطحية أو انفعال، بل بوعى عميق لما يُحاك، وإدراك أن الهدف ليس فقط تفريغ غزة من سكانها، بل دفع مصر إلى الفوضى وتحويلها إلى طرف فى لعبة لا تعود على الفلسطينيين إلا بالضرر. ولهذا جــاء الموقــــف المصــــرى واضــحاً: لا تهجير، ولا مقايضة، ولا تنازل عن سيادة مصر أو عن الحقوق الفلسطينية.
وراء هذا الموقف قيادة تدرك أبعاد المشهد، وشعب واعٍ يتابع التفاصيل بعين فاحصة. المصريون لم يعودوا أسرى الشعارات، بل يميزون جيداً بين من يقاوم ومن يتاجر بالمقاومة، وبين من يدعم الشعب الفلسطينى حقاً ومن يحاول استغلال آلامه لدفع أجندات سياسية. هذا الوعى الشعبى هو الدرع الحقيقية التى تحمى القرار السياسى، ومنع اختراق الداخل المصرى بشائعات وأكاذيب.
إن ما يُراد لمصر هو أن تتحول إلى «البديل» الجغرافى لفلسطين. هذا ما تريده إسرائيل، وهذا ما ترفضه مصر رفضاً قاطعاً. وفى المقابل.. لهذا فإن الهجوم على مصر أو سفاراتها، بذريعة «نصرة غزة»، لا يخدم إلا المحتل. فالمعادلة واضحة: كلما انشغل الشارع العربى بالمزايدات على دور مصر، كلما خف الضغط على إسرائيل.
فى النهاية، سيظل صوت مصر، دولة وشعباً، منحازاً إلى الحق الفلسطينى، مدركاً أن الطريق إلى الدولة الفلسطينية لا يمر عبر سيناء، بل عبر إنهاء الاحتلال، وكسر الحصار، وإقامة دولة مستقلة كاملة السيادة. أما محاولات التحريض فلن تغير هذه الحقيقة، ولن تنجح فى إضعاف جدار الوعى الشعبى والرسمى فى مصر.