لم يعد المزاج العام انعكاسًا بريئًا لمشاعر الناس وتفاعلاتهم كما كان فى الماضى، بل صار صناعة دقيقة تُدار بخيوط غير مرئية. هذه الصناعة وجدت ملعبها الأوسع فى منصات السوشيال ميديا، حيث يتجمع ملايين المصريين يوميًا ليتابعوا الأخبار، ويشاهدوا الفيديوهات، ويتبادلوا التعليقات، لتتحول القضايا الصغيرة فى ساعات إلى موجات ضخمة من الغضب أو السخرية أو التعاطف. مباراة كرة قدم أو قرار اقتصادى أو حتى إشاعة مجهولة المصدر، قد تفرض نفسها على الإعلام التقليدى، بل وتضغط على صانع القرار السياسى.
لكن وسط هذه الفوضى الرقمية، يطل اللاعب غير المرئى: الذكاء الاصطناعى. لم يعد مجرد تقنية محايدة، بل أصبح «المهندس الخفى» الذى يرسم ملامح وعى الناس. فهو يحلل ملايين التفاعلات فى لحظة، يحدد اتجاهات الرأى العام، ويوجّه لكل مستخدم محتوى خاصًا يشغل اهتمامه أو يثير مخاوفه أو يغذّى انفعالاته. ما يظنه الفرد صدفة على هاتفه، هو فى الحقيقة نتاج خوارزمية دقيقة تعلم ما يثيره وتعرف كيف تدفعه إلى التفاعل. والأخطر أن هذه الخوارزميات باتت قادرة على صناعة فيديوهات وصور وأخبار يصعب التفريق بينها وبين الحقيقة، حتى أصبح الحد الفاصل بين الواقع والخيال شبه معدوم.
هذه الظاهرة لا تخص مصر وحدها. ففى الولايات المتحدة مثلًا، تسببت موجات الأخبار المضللة عبر السوشيال ميديا فى التأثير المباشر على نتائج الانتخابات، حتى باتت مؤسسات الدولة نفسها تعترف بخطورة «الترندات المصطنعة» على الديمقراطية. أما الصين، فقد اختارت مسارًا مختلفًا، فوجهت الذكاء الاصطناعى ليكون أداة للانضباط والسيطرة، تحت مظلة رقابة صارمة تضمن أن المزاج العام لا يخرج عن الخط المرسوم. وفى أوروبا، دارت نقاشات واسعة حول خطورة هذه الأدوات فى تضخيم خطاب الكراهية والتلاعب بالناخبين، ما دفع الاتحاد الأوروبى إلى سن قوانين جديدة لمحاولة ضبط الخوارزميات قبل أن تتحول إلى وحش يبتلع العقل الجمعى.
فى مصر، التجربة واضحة. أى قضية حياتية أو اقتصادية سرعان ما تتحول إلى رأى عام ضاغط على المنصات، وتدفع المسئولين إلى التفاعل معها. الدولة بدورها أدركت أهمية هذه الساحة، فبدأت فى توظيف أنظمة متقدمة لرصد المزاج الشعبى وتحليل اتجاهاته، معتبرة أن إدارة الوعى لم تعد رفاهية، بل جزء أصيل من معادلة الأمن القومى.
لكن هنا يكمن الخطر: الذكاء الاصطناعى والسوشيال ميديا سلاح ذو حدين. من جهة، يمكن أن يكونا أداة قوية لرفع الوعى ونشر المعرفة وتعزيز المشاركة المجتمعية. ومن جهة أخرى، قد يتحولان إلى بؤرة للتضليل وصناعة الشائعات، وإلى منصّة تغرق الناس فى فقاعات معلوماتية تجعلهم أسرى لرؤى ضيقة أو زائفة. الخطر الأكبر أن العقل نفسه يصبح ساحة اختبار، تُغذيه الخوارزميات بما تريد لا بما يحتاج، فيفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، وبين المصلحة اللحظية والمصلحة الوطنية.
هنا يصبح السؤال مصيريًا: كيف نواجه خطر هذا «المهندس الخفى» على عقولنا؟ الحل لا يكمن فى الهروب من التكنولوجيا، وإنما فى إتقان إدارتها. المطلوب هو تعزيز التربية الإعلامية والرقمية، وتطوير وعى مجتمعى قادر على القراءة النقدية، والتمييز بين المحتوى الحقيقى والمصطنع، وعدم الانجرار وراء الانفعال اللحظى. فالتكنولوجيا ليست قدرًا محتومًا، بل أداة يمكن أن تخدم المجتمع إذا أُحسن استخدامها، وتدمره إذا تُركت بلا وعى أو ضوابط.
إن المهندس الخفى قد يبنى وعيًا راسخًا أو يهدمه، وقد يكون جسرًا نحو المشاركة والنهضة أو أداة للفتنة والانقسام. والخيار فى النهاية بأيدينا: إما أن نكون مجرد مستقبلين لما تبرمجه الخوارزميات، أو أن نصنع بأنفسنا وعيًا محصنًا لا ينكسر أمام سطوة الزيف.