بدا على وجه صاحبنا شحوب واضح وارتسمت بعض الانتفاخات تحت عينيه كما تعاني بشرته الجفاف فسألته ماذا بك؟ فأجابني لا أنام! الشأن الخاص ومعه العام يجعلانني مؤرقاً معظم الوقت فقلت له لا حيلة لنا في العام وعليك أن تهتم بما يخصك فهذا ما يمكن أن تقدر عليه، فصمت قليلاً ثم قال كانت أمي الله يرحمها عندما أذهب إلى النوم تقول لي نوم العواف يا حبيبي… نفسي الآن في هذا النوم! في لسان العرب لابن منطور حرف العين (عوف) العواف ما ظفرت به ليلاً..
ويقال كل ظفر بالليل بشيء فذلك الشيء عوافته. لم يهتم الفلاسفة بظاهرة النوم كسائر الظواهر الإنسانية الأخرى حتى من درسه منهم جاء في سياق رؤية منهجية مثل (ديكارت) الذي رأى النوم مثالًا للشك في حقيقة الواقع حيث لا يمكن للإنسان أن يميز بين اليقظة والنوم، فأثناء النوم لا يتوقف العقل عن التفكير لأن التوقف عن التفكير يعني التوقف عن الوجود، ومع ذلك فإننا نتذكر أفكار النوم مما يجعله موقفاً غامضاً، وفي المقابل يرى الفيلسوف التجريبي(جون لوك) أننا لا نفكر أثناء النوم مما يعد دليلاً على خطأ التصور الديكارتي، غير أن (ديكارت) كان يحب النوم العميق الطويل حيث يرى ما لا يمكن أن يراه في عالم الواقع أو تلك الأحلام الفلسفية..
وعلى الدرب نفسه يقول الفيلسوف الوجودي (كيركجارد) أنه يقسم وقته نصفين الأول للنوم والثاني للحلم وعلى النقيض يرى (أفلاطون) أن الرجل النائم عديم الفائدة. ويتحدث عالم النفس والأعصاب البريطاني (ماثيو ووكر) في كتابة لماذا ننام عام 2017 عن ذلك الرجل الأربعيني الذي أصيب بمرض الأرق العائلي المميت وهو مرض نادر جداً تسبب له في الحرمان من النوم حتى فقد القدرة على الكلام، بل والمشي وأصيب بتلف بالغ في وظائفه الحيوية وفي النهاية كان الموت، ويؤكد (ووكر) على الدور المهم للغاية الذي يلعبه النوم في تطورنا العقلي ويطرح سؤالاً عكسياً: لماذا نستيقظ أصلاً في هذه الحياة ألا تلحق بنا اليقظة أضراراً كثيرة.
في الأصل كان النوم وما اليقظة إلا تابعاً أو وقتاً مستقطعاً من حالة النوم. والنوم لحظة صدق بينما تعاني اليقظة من الخداع والكذب، وعندما ننام ينفض الوعي عنه أثقاله ويرتاح.
وكما يقول “جلال الدين الرومي” في النوم يعود الإحساس الإنساني إلى وطنه بعد غربة اليقظة. ويؤكد (نيتشه) على مقولة (الرومي) حينما يقول كل الذين يشعرون بالنوم لهم كل السعادة، إذ أنهم قريباً سوف يغفون إلى الأبد.
وفي زمن التسارع الزمني الذي أكدته التكنولوجيا الفائقة بوسائلها المسيطرة مثل وسائل التواصل الاجتماعي فإن الدراسات تؤكد أن لم يأت وقت على البشرية عانت فيه من قلة النوم مثل زمننا الحالي، ويعبر المبدع صلاح جاهين عن قلقه المستمر في قصيدته النوم… النوم قيود والجسم مغلول بها… غلاب غلب على العين يا غلبها… فيه ناس بتشكي قلة االنوم، وأنا… بأشكي الدقايق التي بأغفل بها!