لم تعد التكنولوجيا مجرد وسيلة للتسلية أو للتواصل بين الأفراد، بل تحولت فى السنوات الأخيرة إلى أداة إستراتيجية لتشكيل العقول وصناعة الرأى العام. من «فيسبوك» إلى «تيك توك»، ومن «يوتيوب» إلى «إكس»، صارت المنصات الرقمية بمثابة جبهة قتال جديدة، أكثر خطورة وأعمق تأثيرًا من ساحات المعارك التقليدية. لكن هذه ليست معارك واضحة بين جيشين، بل هى معارك رمادية، تضبّب فيها الحقيقة بالكذب، والحقائق بالشائعات، حتى لم يعد المواطن يعرف أين يقف.
القصة بدأت مع الثورة الرقمية فى العقدين الأخيرين، حين صار الهاتف الذكى نافذة مفتوحة على العالم. ملايين البشر صاروا يستهلكون الأخبار من «الترند» لا من الصحف، ويكوّنون مواقفهم من «الفيديو القصير» لا من الدراسات المتعمقة. وهنا دخلت الحكومات والشركات الكبرى على الخط، لتدرك أن من يسيطر على هذه المنصات يملك سلاحًا يفوق فى تأثيره قوة المدفع والدبابة.
خذ مثلاً الحملات الانتخابية فى الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يتم إنفاق مليارات الدولارات على الإعلانات الرقمية الموجهة بدقة. الخوارزميات تعرف اهتماماتك، مزاجك، وحتى ميولك السياسية، فتقدّم لك المحتوى الذى يدفعك دفعًا نحو صندوق الاقتراع. لم تعد المسألة «إعلانًا عامًا» يشاهده الجميع، بل «رسالة شخصية» مصممة خصيصًا لتصل إلى عقل الفرد وقلبه.
فى مناطق الصراع، يصبح المشهد أكثر خطورة. فالدعاية لم تعد ورقة مطبوعة أو بيانًا إذاعيًا، بل فيديو مدفوع يظهر على شاشة شاب فى غزة، أو تغريدة متصدرة فى واشنطن، أو محتوى قصير يترسخ فى ذهن مراهق بأوروبا. المثال الأحدث جاء من إسرائيل، حيث كشفت تقارير صحفية عن عقد بقيمة 45 مليون دولار بين شركة غوغل ومكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. العقد يمتد ستة أشهر ويستهدف تمويل حملة دعائية عبر منصات مثل YouTube وGoogle DV360، لنفى وجود مجاعة فى غزة، فى مواجهة تقارير الأمم المتحدة. بل وصل الأمر إلى أن الفيديو الدعائى الذى أطلقته وزارة الخارجية الإسرائيلية بعنوان «يوجد طعام فى غزة» حصد أكثر من 6 ملايين مشاهدة، كثير منها بفضل الترويج المدفوع. هذه الواقعة تكشف بوضوح كيف تُستخدم التكنولوجيا كأداة لتزييف الوعى فى واحدة من أكثر القضايا الإنسانية حساسية.
الأرقام تكشف حجم الظاهرة: فى عام 2023 وحده، قُدّر حجم الإنفاق العالمى على الإعلانات الرقمية الموجهة سياسيًا بأكثر من 30 مليار دولار. وفى دراسات أخري، تبيّن أن ما يقرب من 70 ٪ من الشباب تحت سن الثلاثين يعتمدون على وسائل التواصل كمصدر رئيسى للأخبار. هذه النسبة تعنى ببساطة أن أى حملة ممنهجة عبر هذه المنصات قادرة على قلب المعادلات، وصناعة قناعات جديدة، بل وتغيير اتجاهات سياسية كاملة.
لكن السؤال الأعمق: هل ما يحدث يُعتبر حرية تعبير، أم غزوًا ناعمًا للعقول؟ هل يحق لشركة تكنولوجية أن تتحول إلى أداة بيد حكومة لتلميع صورة أو تشويه حقيقة؟ أين تقف الحدود بين الإعلام الحر والدعاية الممنهجة؟
المسألة لم تعد نقاشًا أكاديميًا. إنها قضية أمن قومى ومعركة بقاء. الدول التى لا تدرك خطورة هذه الأدوات ولا تضع لها إستراتيجيات دفاعية ستجد نفسها أسيرة رسائل موجهة من الخارج، تهز ثقة المواطنين بمؤسساتهم، أو تدفعهم إلى خيارات سياسية كارثية.
الخلاصة أن التكنولوجيا لم تعد محايدة. إنها السلاح الأسود فى المعارك الرمادية: تُستخدم بذكاء لتشكيل ما نفكر فيه، وما نصدّقه، وما نصوّت له، وما نثور ضده. وفى هذا الفضاء الضبابي، تزداد مسئولية الحكومات والمجتمعات عن وضع قواعد أخلاقية وقوانين رادعة تحمى الرأى العام من التلاعب الممنهج.
يبقى السؤال: هل نستطيع أن نحصّن وعى شعوبنا وسط هذا الضباب، أم سنتركه فريسة خوارزميات تُدار من وراء البحار؟