تمر هذا العام 1500 عام على ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن فى عام 1447 هـ وقد هاجر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة وكان قد بلغ الثالثة والخمسين ذلك لأنه كلف بالرسالة وقد بلغ الأربعين وظل يدعو أهل مكة ثلاثة عشر عاما فإذا جمعنا 53 التى هى سِنّه وقت الهجرة إلى 1447 هـ التى هى عمر الهجرة علمنا أن ميلاده صلوات الله وسلامه عليه مضى عليه 1500 عام من النور.
والنور هنا لم يكن لمن آمن به فقط وإنما بلغ البشرية كلها بل بلغ الجن أيضا ، ذلك لأن رسالته غيرت الاجتماع البشرى كله بل غيرت النظرة إلى طبيعة البشر والعلاقات بين البشر وخلقت قانونا دوليا جديدا يستمد نوره مما جاء به الإسلام وينطلق هذا القانون من أن الناس جميعا أحرار تلدهم أمهاتهم أحرارًا وهى المقولة الخالدة لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه التى قالها لسيدنا عمر بن العاص رضى الله عنه حاكم مصر فى ذلك الوقت، وقد استقى سيدنا عمر هذه المقولة من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال:» الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى «. وقوله صلى الله عليه وسلم»النَّاسُ سواءٌ كأسنانِ المُشطِ وإنَّما يتفاضلون بالعافيةِ والمرءُ كثيرٌ بأخيه يرفدُه ويجملُه ولا خيرَ فى صحبةِ من لا يرَى لك مثلَ ما ترَى له».. استطاع النبى صلوات الله وسلامه عليه فى مجتمع شديد العنصرية والطبقية والجمود إن يزيل هذه الفوارق تمامًا وأن يغير ميزان التفاضل بين الناس فجعله العمل الصالح ليحرك المجتمع الإنسانى إلى الأمام فى طريق التحضر والرقى ،ويحفز الاجتهاد فى كل فئات المجتمع فقضى على يأس الضعفاء من تغيير أحوالهم إلى الأفضل إلى مصاف الإنسانية الحقة ، وقضى على كسل الأقوياء واطمئنانهم بثبات وضعهم والاجتماعى فى قمة الهرم فأدركوا أنهم إن ظلوا على خمولهم ضاعوا وصاروا فى ذيل المجتمع وتجاوزتهم الأحداث التى تشارك فيها كل العقول ويحصل كل عقل منها على قدر اجتهاده ومشاركته فى صناعتها وهو ما نستطيع أن نراه فى نماذج كثيرة مما طرأ على المجتمع الجديد بعد ظهور الإسلام ومن ذلك أنَّ نَافِعَ بنَ عبدِ الحَارِثِ الوالى على مكة زمن سيدنا عمر استدعاه أمير المؤمنين عمر إليه فلقيه بمنطقة تسمى عُسْفَانَ، فسأله سيدنا عمر عمن كَلّفه بتولى أمور الناس فى غيبته وكان سيدنا عمر يختبر دائما ولاته فَقالَ سيدنا نافع استعملت ابْنَ أَبْزَى، قالَ: وَمَنِ ابنُ أَبْزَى؟ قالَ: مَوْلًى مِن مَوَالِينَا أى ممن كانوا عبيدا واعتقوا ، قالَ سيدنا عمر يختبره : فَاسْتَخْلَفْتَ عليهم مَوْلًى؟! كأنه يستنكر ذلك لكن نافع الذى يعرف القواعد الجديدة التى قَعّدها الدين قالَ: إنَّه قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإنَّه عَالِمٌ بالفَرَائِضِ، هنا طابت نفس سيدنا عمر وأورد ما يؤكد صواب تصرف وآلية مما قاله الذى لا ينطق عن الهوى فقال : «أَمَا إنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قدْ قالَ: إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ.
من يتأمل هذا التصرف يستطيع أن يرى فيه أمورًا عدة منها أن الناس فى أغلبهم أدركوا روح الدين وتشربوا قواعده الجديدة ورضوا بها وأدركوا صوابها وعدالتها سواء منهم العلماء أو البسطاء فالحادث وقع فى مكة التى بها قريش التى تعتز بنسبها ،وترى أنها أفضل العرب وكانوا يتقاسمون الشرف من خلال المسئوليات العامة ولم يكن ينصاعوا لغير القرشيين بل يتنافسوا فيما بينهم على من هو أفضل وها هم ينصاعوا لأحد الموالى حاكمًا عليهم دون أن يعترضوا كلاما أو سلوكًا وها هو سيدنا نافع يختار من يراه الأفضل بالقواعد الجديدة التى تمثلت فى العلم والتقوى دون أن يختاره شك فى اعتراض الناس وها هو سيدنا عمر لا يترك واليه دون اختبار .
هذه العدالة وهذه الروح الجديدة تسربت إلى الأمم الأخرى وأخذت منها وافادت بنورها فقد نقل الأوروبيون العلوم الجديدة التى ابتكرها العرب وكذلك القيم الجديدة فى مواطن شتى منها الأندلس فنوره صلى الله عليه وسلم وصل إلى مشارق الأرض ومغاربها ومازال يفتح قلوبا وآفاقا جديدة كل يوم.