تحليل : نهى حامد
لا يمكن لأى مراقب منصف أن يتجاهل أن مصر، منذ فجر الصراع العربي-الإسرائيلي، كانت وما زالت ركيزة أساسية فى تشكيل ملامح المنطقة. فهى الدولة، التى خاضت حربًا صنعت منها السلام، ولم تغب يومًا عن مسرح الأحداث. ومهما تبدّلت الظروف وتعاقبت الحكومات، ظلّت القاهرة حاضرة فى ملفات المنطقة الكبري، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية، لا تدافع إلا عن «الحق والعدل».
فى خضم العدوان الإسرائيلى المستمر على غزة منذ اكتوبر 2023، كان من السهل أن يكتفى كثير من الأطراف بعبارات إنشائية فضفاضة أو دعوات خجولة للتهدئة. لكن القاهرة اختارت الطريق الصعب، طريق المواجهة وإثبات المواقف ووضع الخطوط الحمراء والوعيد لمن يفكر فى تجاوزها، وتجاوز الأمر إلى أن تصعّد من خطابها وتستخدم لغة صريحة تصل أحيانًا إلى حدّ الاتهام المباشر بـ «الإبادة».
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى أول من قرأ الهدف الأساسى من حرب الإبادة المروعة التى يشنها الاحتلال على قطاع غزة، حيث أكد – خلال كلمته فى « مؤتمر تحيا مصر» الذى عقد فى استاد القاهرة للتضامن مع فلسطين فى شهر نوفمبر 2023 أى بعد أقل من شهر من بدء الحرب على غزة – أن التهجير القسرى للفلسطينيين خط أحمر لا تقبله مصر ولن تسمح به.
أوضح الرئيس السيسى أن الفلسطينيين إذا خرجوا من أراضيهم فلن يعودوا إليها مرة أخري، وندد باستخدام «منهج العقاب الجماعى وارتكاب المجازر كوسيلة لفرض واقع على الأرض بما يؤدى إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطينى والاستيلاء على الأرض».
الموقف المصرى الراسخ من الحفاظ على القضية الفلسطينية وعدم تصفيتها ظهر كذلك فى كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى عندما صرح فى يناير الماضى بأن «المشاركة فى تهجير الفلسطينيين ظلم لا يمكن التهاون فيه أو القبول به، ويمثّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصري». وشدّد على أن الطرح ينطوى على «فعل ظالم» مرفوض بشكل قاطع.
كما ظهر جليا فى بيانات وزارة الخارجية، التى استخدمت الدبلوماسية القوية فى كشف المؤامرات وفضح ما يحاك ضد الدولة المصرية والقضية الفلسطينية. ففى مايو 2024 حمل وزير الخارجية السابق سامح شكرى إسرائيل المسئولية الكاملة عن «الكارثة الإنسانية» فى غزة، مؤكّدًا أن سياسة الحصار وإغلاق المعابر سبب رئيسى فى تدهور الوضع الإنساني. وقبلها فى فبراير 2024 نفت الخارجية فى بيان إقامة أى مخيمات لاستقبال الفلسطينيين عند حدود رفح، وأكدت أن «التهجير أو إقامة وحدات للإيواء على حدود غزة خط أحمر».
وفى مارس من العام الحالى ادان بيان الخارجية الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة واعتبرتها «خرقًا صريحًا للهدنة» التى جرى التوصل إليها بوساطة مصرية – قطرية – أمريكية.
كما كشف وزير الخارجية الحالى بدر عبدالعاطى فى فبراير الماضى عن «خطة مصرية لإعادة إعمار غزة»، مؤكّدًا أن الخطة لا تتضمن أى تهجير للفلسطينيين وأنها جزء من مسار سياسى أوسع لحل القضية. وفى أبريل الماضى صرح عبدالعاطى بأن مصر «تبذل جهودًا مستمرة وصادقة وغير منقطعة» بالتعاون مع قطر والولايات المتحدة لاستعادة وقف اطلاق النار الذى دخل حيز التنفيذ فى يناير 2025.
فى الشهر الماضى وصف عبدالعاطى خلال زيارته لأثينا ما يحدث فى غزة بأنه «إبادة منهجية»، وانتقد المجتمع الدولى واعتبر رد فعله «مخجلاً ومتأخرًا» كما أعلن أن «التهجير الجماعى خط أحمر بالنسبة لمصر»، وكرّر وصف ما يحدث بأنه «إبادة»، فى موقف شديد الصراحة أربك إسرائيل.
خلال الساعات الماضية توالت تصريحات وزير الخارجية الرافضة لتصفية القضية الفلسطينية، أو لتهجير الفلسطينيين معلناً أن مصر لن تكون أبداً شريكاً فى الظلم أو بوابة للتهجير.
قراءة الاحتلال للرد المصرى
من يتابع الصحافة العبرية يلحظ بسهولة حالة القلق التى تربك أركان دولة الاحتلال من كل بيان مصري. صحيفة «هآرتس» رأت أن القاهرة تضع إسرائيل أمام «جدار سياسى يصعب تجاوزه»، وأن تل أبيب لا تستطيع ببساطة تجاهل موقف دولة تسيطر على المعبر البرى الوحيد لغزة مع العالم الخارجي.
أما «يديعوت أحرونوت» فتحدثت بوضوح عن «إرباك متكرر» فى المؤسستين الأمنية والسياسية الإسرائيلية عقب كل خطاب مصري. وفى مقالات رأى نشرت هناك، وُصف الموقف المصرى بأنه «أقرب إلى تحدٍّ معلن» للسياسة الإسرائيلية، خصوصًا أن القاهرة تمزج بين دور الوسيط وبين لغة النقد العلني.
لم تكتف إسرائيل بالقلق، بل حاولت مرارًا تشويه الدور المصري. وزراء فى حكومة تل أبيب اتهموا القاهرة وزعموا انها تتساهل فى «تهريب السلاح إلى غزة»، بينما ذهبت بعض الصحف العبرية إلى القول إن مصر «تغضّ الطرف عن تحركات حماس.
هذه الاتهامات لم تكن جديدة، لكنها ازدادت حدة كلما رفضت مصر المخطط الاسرائيلى وتصدت له وفى المقابل، ردت مصر بصرامة موضحة انها تقوم بدور الوسيط النزيه، ولن تسمح باستخدام أراضيها للإضرار بأى طرف. بهذا الرد، نزعت القاهرة ورقة دعائية لطالما حاولت إسرائيل اللعب بها.
الاحتلال يستغل ورقة الإخوان
لم تكتف إسرائيل بإلقاء التهم المباشرة، بل وجدت فى جماعة الإخوان الإرهابية ضالتها فى تشويه صورة مصر، وتوهمت تل أبيب أن تحركات الجماعة مادة إضافية لتقويض الدور المصري، حيث دعمت مظاهرات خرجت فى عواصم أوروبية، ترفع شعارات ضد مصر وتتهمها بالتقصير فى دعم غزة.
هذه المظاهرات، التى كانت لا تأثير لها على الاطلاق، جرى تضخيمها فى الإعلام العبرى باعتبارها «دليلاً على رفض شعبى داخل مصر للسياسة الرسمية». لكن الحقيقة أن تلك التحركات لم تكن سوى امتداد لخيانة الجماعة الارهابية وعمالتها لصالح اجندات ضد مصر حاولت إسرائيل استغلالها لإضعاف الموقف المصري.
تجاوز الأمر حدود العقل عندما خرج إرهابيون من الجماعة للتظاهر فى قلب تل أبيب أمام السفارة المصرية برفقة الأعلام الإسرائيلية، وبحماية شرطة الاحتلال، والعبث أنهم كانوا يطالبون مصر بفتح المعبر، الذى أكدت القاهرة مراراً وتكراراً ونظمت زيارات ميدانية لمسئولين دوليين لإثبات أن المعبر مفتوح من الجانب المصرى ولم يغلق أبداً.
ارتمى إخوان الإرهاب فى أحضان إسرائيل، فشكلا تحالفاً خبيثاً للتآمر على الدولة المصرية، المسنودة بقوة شعبها وحكمة قيادتها، وكانت النتيجة أن تحالف العار لم ينجح فى مخططاته.
هذا التوازن بين الصوت العالى أحيانًا والصمت الإستراتيجى أحيانًا أخري، يكشف عن مدرسة مصرية عريقة فى إدارة الأزمات: لا تستنزف نفسك فى معارك جانبية، لكن لا تسمح لأحد بتجاوز خطوطك الحمراء.
إسرائيل تعرف أن مصر ليست مجرد جار، بل هى الدولة الأكبر عربيًا من حيث السكان والجيش، والوحيدة التى تملك حدودًا برية مباشرة مع غزة. لذلك، أى موقف مصرى يصبح تلقائيًا جزءًا من المعادلة.
ثم إن مصر تحمل شرعية تاريخية: فهى التى خاضت الحرب وقدمت التضحيات، وهى التى رعت المفاوضات والهدنات، وهى التى تملك شبكة علاقات إقليمية ودولية تجعل صوتها مسموعًا فى واشنطن وبروكسل وموسكو. كل هذا يجعل من البيانات المصرية أكثر من مجرد تصريحات، بل أدوات ضغط حقيقية تجبر إسرائيل على التفكير مرتين قبل الإقدام على أى خطوة.
إذا كان الإعلام الإسرائيلى يلجأ إلى التشويه والاتهام، وإذا كانت جماعة الإخوان الارهابية تتحرك فى الخارج لتقويض صورة مصر، فإن ذلك فى جوهره اعتراف ضمنى بنجاح القاهرة فى فرض رؤيتها فلو كان الدور المصرى هامشيًا أو ضعيفًا، لما احتاج أحد استهدافه أو النيل منه.
اليوم، ونحن أمام مرحلة فارقة فى الصراع، يثبت الموقف المصرى أنه الاقوى، بل عامل رئيسى فى تحديد اتجاه الأحداث. من رفح إلى نيويورك، ومن القاهرة إلى تل أبيب، تُسمع أصداء البيانات المصرية وتُقرأ بعناية فى كل دوائر القرار.
قد تحاول إسرائيل التشويه، وقد تستغل جماعة الإخوان الارهابية لحملات دعائية، لكن مصر تظل قادرة على فرض حضورها، بوصفها الدولة التى تملك التاريخ والجغرافيا والشرعية، والتى تجعل من كل كلمة تقولها حدثًا، ومن كل بيان تصدره عنصرًا يُربك الحسابات. وهكذا، يتأكد أن الدور المصري، بما يحمله من ثقل سياسى وإستراتيجي، سيظل الحارس الأبرز للمعادلة والقضية الفلسطينية، وصوتًا لا يمكن لإسرائيل تجاهله مهما حاولت الالتفاف أو التشويه.