حين خطّ الفيلسوف والقائد الصينى صن تزو كتابه الخالد «فن الحرب» فى القرن السادس قبل الميلاد، لم يكن يتصور أن حكمه ستعبر آلاف السنين لتصبح مرجعًا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا حتى يومنا هذا. كتاب تُرجم إلى أكثر من 92 لغة، ودرس منه ماو تسى تونج، واستلهمه نابليون، واعتبره القادة الألمان دستورًا للحرب، بينما تحرص وزارة الدفاع الأمريكية على تدريسه لضباطها وتوزيعه على جنودها فى مهماتهم الخارجية. لم يكن مجرد صفحات عن معارك، بل كان فلسفة شاملة لفهم الصراع وإدارته.
الخلود الذى حازه هذا الكتاب يعود إلى أنه لم يحصر الحرب فى ساحات الدم، بل قدّمها كفنّ يتقاطع فيه العقل مع السيف، والبصيرة مع التكتيك، والصرامة مع الحكمة. صن تزو لم يرَ القتال غاية، وإنما وسيلة قد تُختصر إذا أحسن القائد التخطيط. ولذلك قال عبارته الشهيرة: «اجعل خططك معتمة وغير قابلة للاختراق كما هو الليل، وعندما تتحرك، اضرب كالصاعقة». هنا تكمن الفلسفة التى تتجاوز زمنها: الغموض المحكم، والضربة الخاطفة التى تربك العدو وتمنحه الهزيمة قبل أن يبدأ المعركة.
إننا نقرأ فى الكتاب ما يشبه القواعد الذهبية لإدارة أى مواجهة. يقول صن تزو: «إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مائة معركة». الحكمة هنا أعمق من ساحات القتال؛ فالدول كما الأفراد، إذا لم تعرف نفسها وتدرك إمكانياتها، لن تصمد طويلاً أمام التحديات. أما الجهل بالنفس وبالخصم معًا، فهو وصفة مؤكدة للهزيمة.
ولأن الحكمة لا تنفصل عن السياسة، يؤكد صن تزو: «لا تتحرك إن لم تكن ثمة فائدة من التحرك، ولا تقاتل إلا إذا كان موقفك حرجًا». هنا يظهر البُعد الإستراتيجى الذى نفتقده أحيانًا؛ فليس كل معركة تستحق أن نخوضها، ولا كل خصم يستحق المواجهة. أحيانًا يكون الانسحاب تكتيكًا أذكى من الاندفاع، ويكون الصبر أقوى من التصادم.
ويبلغ المعنى ذروته حين يقول: «إن تقاتل وتنتصر مائة مرة ليس نيلاً للكمال، لأن ذروة الفن هى إخضاع العدو دون قتال». هذه العبارة تصلح عنوانًا للعصر الحديث حيث القوة الناعمة صارت أداة للحسم. فالدبلوماسية الذكية، والتحالفات الإستراتيجية، والسيطرة على الاقتصاد والوعي، قد تُسقط خصمًا بلا طلقة واحدة.
ويحذر صن تزو من الغرور المفرط، فيقول: «جاءت الفوضى من النظام، والخوف من الشجاعة، والضعف من القوة». إنه يذكّرنا بأن الثقة الزائدة قد تنقلب إلى تهور، وأن الإفراط فى القوة قد يخلق هشاشة داخلية، وأن النظام الصارم قد يولّد الفوضى إذا تحول إلى جمود.
أما القيادة، فهى عنده مسئولية قبل أن تكون شرفًا. يقول: «القائد الذى يتقدم دون أن يفكر فى نيل مجد شخصي، وينسحب بالرغم من عقوبة معينة، والرجل الذى همه الأول أن يحمى شعبه ويدعم مصالح وطنه، هو كنز وطني». إنها صورة مثالية للقائد الذى يقيس المجد بمدى حفظه للأمة، لا بمدى تصفيق الجماهير له.
اليوم، والعالم يموج بالصراعات العسكرية والاقتصادية والسياسية، يبقى «فن الحرب» ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل بوصلة تهدينا إلى أن الانتصارات الحقيقية تبدأ من العقل قبل السيف. المعارك تحسم بالتوقيت، والغلبة تُكسب بالخطط المعتمة، والانتصار لا يُقاس بعدد الطلقات، بل بقدرة الشعوب على الثبات والابتكار.
فالأمم التى تعرف نفسها، وتخفى خططها، وتضرب فى الوقت المناسب، هى التى تصنع التاريخ. أما أولئك الذين يجهلون أنفسهم ويكشفون أوراقهم، فإنهم يتركون مصيرهم للصدفة.. والصدفة لا ترحم فى ميادين الصراع.