أواصل الحديث حول الإستراتيحية الوطنية للتصنيع، وأتناول اليوم أمرا بالغ الأهمية بشأن هذه الإستراتيجية وهو ما يتعلق بالتصنيع الزراعي. والمعروف أن التحول إلى التصنيع الزراعى فى مصر محفز للنمو المستدام.
ولطالما كان القaطاع الزراعى فى مصر هو الركيزة الأساسية للاقتصاد، حيث يوفر الغذاء للسكان ويوظف جزءاً كبيراً من القوى العاملة. ومع ذلك تواجه الزراعة التقليدية تحديات عديدة، منها محدودية الموارد المائية، وتفتت الحيازات الزراعية، والتغيرات المناخية. فى ظل هذه التحديات، برز التصنيع الزراعى كحل إستراتيجى وضرورى لتعزيز قيمة الإنتاج الزراعى وتحقيق التنمية المستدامة. ولا يقتصر التصنيع الزراعى على تحويل المنتجات الزراعية الأولية إلى منتجات نهائية فقط، بل يشمل أيضاً مجموعة واسعة من الأنشطة التى تبدأ من تطوير البذور المحسّنة والتقنيات الزراعية الحديثة وصولاً إلى التعبئة والتغليف والتسويق للمنتجات النهائية. هذا التحول ليس مجرد خيار، بل هو مسار حتمى لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة وتحسين جودة حياة المزارعين.
إن أحد أبرز أهداف التصنيع الزراعى هو زيادة القيمة المضافة للمنتجات الزراعية. فبدلاً من تصدير الطماطم كمنتج خام بسعر منخفض، يمكن تحويلها إلى صلصة أو معجون أو حتى طماطم مجففة، مما يرفع قيمتها السوقية بشكل كبير ويفتح أسواقاً جديدة. هذا المبدأ ينطبق على العديد من المحاصيل الأخرى مثل الفواكه التى يمكن تحويلها إلى عصائر أو مربات، والخضروات التى يمكن تجميدها أو تعليبها. هذه العمليات لا تقلل فقط من الفاقد والتلف بعد الحصاد، بل تساهم أيضاً فى توفير منتجات غذائية على مدار العام، مما يعزز الأمن الغذائى للبلاد. كما أن إنشاء مصانع صغيرة ومتوسطة الحجم فى المناطق الريفية يخلق فرص عمل جديدة ويحد من الهجرة إلى المدن، مما يدعم التنمية الاقتصادية الشاملة. وتتطلب عملية التحول إلى التصنيع الزراعى فى مصر جهوداً متضافرة من مختلف الجهات. فمن الضرورى أن توفر الحكومة حوافز استثمارية للشركات التى تستثمر فى هذا القطاع، مثل الإعفاءات الضريبية وتسهيل الحصول على الأراضى والقروض الميسرة. كما يجب الاستثمار فى البنية التحتية اللازمة، مثل شبكات النقل المبردة ومستودعات التخزين الحديثة ومراكز الأبحاث والتطوير. وعلى الجانب الآخر، يقع على عاتق القطاع الخاص مسئولية تبنى أحدث التقنيات والابتكارات فى مجال التصنيع الغذائي، والالتزام بمعايير الجودة والسلامة الغذائية العالمية لضمان قدرة المنتجات المصرية على المنافسة فى الأسواق الدولية. ويجب أيضاً تعزيز الشراكات بين المزارعين وأصحاب المصانع، مما يضمن تدفق المنتجات الزراعية بالجودة والكمية المطلوبة، ويمنح المزارعين دخلاً مستقراً ومضموناً.
من الأمثلة الواعدة على التصنيع الزراعى فى مصر هو التوسع فى زراعة النباتات الطبية والعطرية، والتى يتم تحويلها إلى زيوت عطرية ومستحضرات تجميل ومكملات غذائية. كما أن هناك فرصاً هائلة فى مجال تصنيع التمور، حيث يمكن تحويل التمور المصرية إلى دبس التمر ومعجون التمر ومنتجات أخرى مبتكرة بدلاً من تصديرها بشكل خام. علاوة على ذلك، يمكن لمصر أن تستفيد من موقعها الجغرافى المتميز وتصبح مركزاً إقليمياً للتصنيع الزراعى وتصدير المنتجات الغذائية المصنعة إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. هذا التوجه يتطلب أيضاً التركيز على التسويق الفعال للمنتجات المصرية المصنعة، وتسليط الضوء على جودتها وتنوعها.
على الرغم من الفرص الواعدة، هناك تحديات يجب مواجهتها. وأحد هذه التحديات هو الحاجة إلى تطوير المهارات الفنية للقوى العاملة فى هذا القطاع، من خلال توفير برامج تدريبية متخصصة فى مجالات التصنيع الغذائى ومراقبة الجودة. كما أن هناك حاجة إلى تحديث التشريعات واللوائح المتعلقة بالاستثمار فى التصنيع الزراعى لتبسيط الإجراءات وتقليل البيروقراطية. بالإضافة إلى ذلك، يجب معالجة مسألة تفتت الحيازات الزراعية التى تعيق تطبيق تقنيات الزراعة الحديثة وتوفير الكميات الكبيرة من المواد الخام اللازمة للمصانع. ويمكن التغلب على هذه التحديات من خلال تشجيع الزراعة التعاقدية وإنشاء تجمعات زراعية كبيرة. وفى نهاية المطاف، يعتبر التصنيع الزراعى استثماراً فى مستقبل مصر الاقتصادي، فهو لا يعزز فقط الأمن الغذائى والدخل القومي، بل يساهم أيضاً فى خلق مجتمعات ريفية مزدهرة ومستدامة، ويضع مصر على خريطة الدول المنتجة للغذاء عالى الجودة على المستوى العالمي.