قصة قصيرة ..لمحمد عبدالمنعم زهران في ذكراه
(من مجموعة سبع عربات مسافرة الفائزة بجائزة يوسف إدريس 2020)
فتحت دولابي لأرتدي أي شيء؛ لأنني سأخرج الآن.
عادة أنتقي الملابس ببساطة وبذوق لحظي ثم أرتديها فورًا. لا توجد لديّ أشياء جاهزة أو أطقم محددة قمت بترتيب ارتدائها معًا.. فالكوفية الخضراء على تيشيرت كحلي مع بنطلون جينز أزرق ثم جاكت بيج، يستوي لديّ مع ذات الكوفية الخضراء مع تيشيرت أزرق وبنطلون أسود وجاكت رمادي، أو نفس الجاكت الرمادي مع الطقم الأول، أو أن أرتدي بلوفر أحمر مع صديري بني وبنطلون بيج مع جاكت أسود. كل هذه الأشياء يمكن ارتداء أي منها دون ترتيب مسبق، فقط الاختيار اللحظي الذي يستغرق وقت الارتداء لا أكثر.
بدأت أفكر في ارتباط هذا بحالتي النفسية، وربما بالمكان الذي أقصده فور انتهائي من ارتداء ملابسي، أو حتى الأشخاص الذين سأقابلهم.
دائمًا أفكر في كل هذا، ودائما أتجاهله تمامًا دون الدخول في طاحونة التحليل التي ترهقني، كما حدث الآن تمامًا، عندما مددت يدي إلى الدولاب لأختار الجاكت البيج، وبمجرد وضعه على جسدي شممت رائحة، كانت رائحة امرأة ما، أدهشني ذلك فبدأت أشم روائح بقية الملابس في دولابي، واندهشت لأن كل مجموعة من الملابس -التي لم تُغسل بعد- كانت تحمل رائحة امرأة ما، فبدأت في ترتيب الملابس التي تنتمي لنفس الرائحة تقريبًا، واستطعت بمزيد من التركيز تمييز رائحة كل مجموعة ملابس ونسبتها بسهولة إلى امرأة في حياتي.
فقط هذه المجموعة من الملابس، كانت تخرج منها رائحة امرأة ما لم أستطع التعرف عليها، ولم أستطع تذكرها أبدًا، واندهشت لأنني ارتديت هذه الملابس منذ يومين تقريبًا، ولم أكن قد قابلت أحدًا. استرجعت كل ما مر في هذه الليلة إذ لم أكن قد التقيت أي امرأة.
ملأت الرائحة كياني فجأة، وبعد تفكير طويل قررت أن أتجاهلها، وأتجه لارتداء ملابس جديدة لا تحمل أية رائحة.
ولكنها عادت تؤرقني من جديد، وسيطرت عليّ رغبة في أن أعرف رائحة من هذه؟ أصابني ضيق لأنني فشلت في تذكر أي شيء، كمحاولة للنسيان بدأت أرتب مجموعة الكتب على الأرفف، أمسكت كتابًا وبدأت أتصفحه، أعجبني الكتاب فجلست وبدأت أقرأ. وبينما أقرأ هاجمتني الرائحة مرة أخرى، نهضت غاضبًا وأمسكت كومة الملابس، أخذت أشم رائحتها بتركيز، لم تكن عطرًا خاصًّا، كما لم تكن رائحة عرق أو رائحة جسد ما، كانت مجرد رائحة فقط. وبيأس التقطت زجاجة عطر وأفرغتها تقريبًا في الملابس، ثم وضعتها في مكانها، وقررت أن أتناسى كل شيء. زالت الرائحة الآن، كان هذا حلًّا مناسبًا لأتوقف عن التفكير، ولكنه حمل معه شعور الفشل الذي أكرهه، ربما كان ينبغي عليّ التمهل قليلًا بدلاًمن هذه الطريقة التي أنهيت بها كل شيء، أنهيته دون عدالة كلاعب شطرنج تدرب جيدًا، واندفعت يده بتأثير نوبة غضب لتطيح بقطع خصمه من على الطاولة.

أصابتني كآبة مفاجئة، وقررت ألا أخرج وأن أنام فقط. استلقيت وغفوت قليلًا. مر وقت وأنا أتقلب دون راحة، وفجأة بدأت قطع الشطرنج تنتصب واحدة فأخرى أمامي لتشكل جبهة كاملة وقوية، هكذا كان الأمر عندما عادت الرائحة من جديد، أخذت نفسًا طويلًا، وتركتها تتخلل كل حواسي، توهج عقلي عندما تحولت قطع الشطرنج إلى مقعد في حديقة الميدان القريب، فى هذه اللحظة أدركت كل شيء، واستطعت تذكر هذه العجوز التي مررت بها في الليلة الماضية، كانت ترتجف بردًا، وهي تنادي..
- ” أريد بطاطا ساخنة “
اقتربت منها فالتفتت لي: - ” أريد بطاطا ساخنة يا ولد”
كانت ممددة على المقعد ترتجف من البرد، اشتريت لها بطاطا ساخنة من بائع في الناحية الأخرى من الحديقة، ووضعتها في يدها، مشيت قليلًا مبتعدًا، ثم عدت مرة أخرى وخلعت الجاكت ووضعته على كتفيها، طوقت عنقها بالكوفية الخضراء، فبدأت تتحدث عن بائع يأخذ ما يعطيها الناس مقابل البطاطا الساخنة، لم تكن تنظر لوجهي تحديدًا حين تتكلم، ولم أدر إن كانت لا تبصر أم أن بصرها قد خبا بمرور الوقت. عادت لتقول: - ” أنا أحب البطاطا الساخنة يا ولد “
ابتسمت وقلت لها: - بالفعل البطاطا الساخنة حلوة جدًا.
رفعت وجهها وفتحت فمها وهي تأكل: - ” انظر.. لا توجد لديّ أسنان، البطاطا هي الشيء المناسب”
جلستُ بجوارها وأشعلت سيجارة، فمدت يدها وتحسست يدي وأخذتها وبدأت تدخن بعمق ويخرج الدخان من فمها وأنفها قالت: - نعيش مثل هذه السيجارة يا ولد.
اندهشت لهذه الجملة التي خرجت بطريقة عابرة من عجوز مشردة، وبدأت أفكر في أشياء كثيرة محتميًا بالوحدة والفراغ من حولي، كانت تتحدث ولا أنصت لها.
بعد قليل أحسست بالدفء وبدفعة صغيرة من يدها، انتبهت إليها وهي تُبعد الجاكت والكوفية عنها وتدفعهما باتجاهي.. - خذ حاجاتك.. لا أحتاج لها.. لقد طلعت الشمس.
نهضت ورأيتها تتمدد على المقعد مولية وجهها للشمس، قالت دون أن تنظر إلي:
-سيسرقونها مني على أية حال.
شعرت أخيرًا بنشوة الانتصار لأنني تذكرت كل شيء، خرجت إلى الشرفة ونظرت إلى الميدان، لم أستطع تحديد وجودها، عدت إلى الداخل، وضعت الجاكت والكوفية الخضراء في كيس صغير وخرجت.
رأيتها جالسة في نفس المقعد، اقتربت منها، كانت منحنية الرأس، أردت أن أضع الجاكت والكوفية وأمضي، إلا أنها رفعت رأسها ببطء وتثاقل:
-رائحة الولد الطيب مرة أخرى.
هممت بأن أتكلم، فعاد صوتها مرتفعًا: - لماذا تأخرت؟
اعتذرت لها ووضعت الجاكت على كتفها، التفتت إليّ:
-والكوفية يا ولد.
ضحكت بصوت مرتفع: - “حاضر”
-أتعلم.. كان يريدني أن أذهب معه، ولكن يقلتلها نتظر، أريد أن أذهب وطعم البطاطا الساخنة في فمي..
قلت لها مندهشًا: - من؟
بدا أنها لم تسمعني. - كان يلح عليّ أن أذهب معه، ولكنني شتمته بألفاظ سيئة، إنه هنا ينتظر..
قلت لها مرة أخرى: - من؟!
فأصابها غضب وقالت بحدة: - أريد بطاطا ساخنة يا ولد..
أصابتني حيرة ورغم ذلك تلفّت لأرى بائع البطاطا ولكنه لم يكن موجودًا،بدأت أفكر في طريقة للعثور على أي بائع في هذا الوقت المتأخر، عاد صوتها.. - هو ملاك طيب على أيةحال.
رأيتها تنظر بجنب عينيها لشيء غير محدد. - آكل بطاطا ساخنة فقط وسأذهب معك.
ارتجف جسدي عندما تخيلت أن العجوز تهذي وأنها تحتضر الآن، فانطلقت بجنون في الشوارع القريبة لألمح أي أثر لبائع البطاطا ولكنني لم أجده، وقفت وأنفاسي تتدافع، بدأت أشعر باليأس، في هذه اللحظة تحديدًا التقطت أنفي رائحة بطاطا فانتبهت، دخلت شارعًا يفضي إلى مصدر الرائحة، تتبعتها، وأخيرًا رأيت الرجل يوقف عربته ويفرغ باقي البطاطا منها، أخذت أجري نحوه مندفعًا، وقفت أمامه ألهث، أنفي يتجمد من البرد، وبخار كثيف يخرج من فمي: - أريد بطاطا الآن!
يبدو أنني أفزعته لأنه ارتجف فجأة وتراجع ملتصقًا بعربته.
أخذت البطاطا ودفعت الثمن وعدت أجري باتجاه العجوز، كدت أبكي وأنا أراها من بعيد منحنية الرأس، قفزت السور الحديدي للحديقة وعيني ثابتة على الجسد الذي لا يتحرك، توقفت أمامها وأنفاسي متلاحقة.
قلت لها:
-البط اطا.. البطا طا..
فلم ترد، هززتها بيدي: - البطاطا… الساخنة!
أخيرا رفعت رأسها: - أنت ولد طيب..
بقيت واقفًا، أنفاسي لها صوت غليظ، التفتت إليّ وابتسمت.. - لا أريد أن أُخرج يدي..أريد أن أبقيهما في مكانهما..
جلستُ على ركبتيّ أمامها وبدأت أطعمها البطاطا الساخنةفي فمها، أخذت تمضغها في بطء
وهي ترتعش، ابتسمت أخيرًا: - طعمها حلو.
تأملت عينيها، كانت تأكل مغمضة العينين، ويتحرك فمها دون صوت، بعد قليل التفتت بجنب عينيها وقالت بضعف: - سأذهب الآن..
تجمدت في مكاني، ولكنها قالت لي في حدة: - اذهب الآن ولا تعد.. اذهب..
ارتبكت ونهضت خائفًا وأنا أنظر إليها، فعاد صوتها: - قلت لك اذهب ولا تعد!
فجأة ذهب خوفي واضطرابي،أحسستبسكينة غامضة في عمق روحي، دفعتني للاقتراب منها، فاقتربت وجلست بجانبها، أسندتُ رأسها على ذراعي، فلم تقاوم، كانت غائبة.
حركت عينيها نحوي وقالت بصعوبة: - الأمر لا يبعث على الخوف، إنه فقط مجرد نوم طويل، دون شعور بالبرد.
ببطء قربت يدي الأخرى وأمسكت يدها، واستطعت أن ألمس مئات التجاعيد التى ترتعش في يدها، ضغطتُ أكثر، فانتبهت ونظرت إليّ، رأيت دمعة صغيرة بجنب عينيها.. - أتعرف..كنت أريد أن أذهب وطعم البطاطا في فمي.. وولد طيب بجواري..
بكيت فجأة: - أنا بجوارك.
- تمت.
الكاتب في سطور:
محمد عبدالمنعم زهران، قاص وروائي وشاعر ومسرحي مصري، ولد عام 1972، وتوفي في مارس 2022.
صدر له:
*في المسرح:
أشياء الليل – مسرحية – دار سعاد الصباح – الكويت – 2000 م .
ساحر الدراما- مسرحية – طبعة محدودة – إصدارات المجموعة الأدبية 2008 .
زيارة عائلية – مسرحية – المركز الأدبى للنشر والترجمة – أسيوط – 2013 .
*في القصة القصيرة:
حيرة الكائن – قصص – دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة – الشارقة 2001 طبعة ثانية- دار النسيم للنشر والتوزيع – القاهرة -2016 م .
بجوارك بينما تمطر – دار الأدهم للنشر والتوزيع – مصر 2013، وطبعة جديدة_ دار أكوان2022. سبع عربات مسافرة- قصص – دار النسيم للنشر والتوزيع- القاهرة- 2017، طبعة جديدة دار اكوان 2022. هندسة العالم- قصص- منشورات المتوسط- ميلانو 2020. المتجول في الأحلام مجموعة مترجمة للإنجليزية_ دار أكوان2022.
*في الشعر:
ديوان دون ضجيج _ شعر نثري_ دار أكوان 2022.
*في أدب الأطفال:
أنا ومجتمعى – سلسلة قصص للأطفال – دار أصالة للنشر والتوزيع – بيروت-2017 .
*في الرواية:
رواية “راديو راديو”- دائرة الشارقة بالإمارات 2024.
- الجوائز
تحصل على عدة جوائز في مجالي القصة والكتابة المسرحية، منها عربيا:
جائزة أخبار الأدب للقصة1999.
جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة القصة المفردة 2000.
الجائزة الأولى في مسابقة سعاد الصباح للتأليف المسرحي، 2000. عن مسرحية ” أشياء الليل”.
جائزة الشارقة للإبداع العربي في القصة القصيرة، 2002. عن مجموعة ” حيرة الكائن”.
جائزة يوسف إدريس في القصة القصيرة 2020. عن مجموعة ” سبع عربات مسافرة”.
وخمس جوائز أخرى إقليمية ومحلية.
تم تكريم اسمه بمؤتمر أدباء مصر بالوادي الجديد عام 2023.