إنها آفة مجتمعاتنا والسبب الرئيسى فى ضياع كل الفرص المواتية أمامنا للانطلاق وصناعة التقدم، الأنانية اللعينة والنظرة الجزئية للأشياء التى تستبعد الصورة الكلية وتنحيها جانبا، فالنظر تحت أقدامنا وعدم القدرة على قراءة المستقبل هو النتيجة الحتمية للانغلاق والجمود فنحن لا نسمع بعضنا البعض لأننا لا نجلس معا إلا بتوجيهات وأطر وظيفية محددة يغلب عليها الطابع الشكلي، وإذا جلسنا انهمك كل منا فى رؤيته وحصر نفسه فى زاوية ضيقة، ومن الصعب ان يرى باقى الزوايا لباقى الشركاء فى نفس الملف وذات المشكلة، جميعنا نعرف ان هناك فيلا ضخما، وكل منا لا يرى بعينه إلا جزءاً من هذا الفيل، فالجميع يعرف الفيل لكن القليل هو من يرى الفيل كاملا، فالصحافة والإعلام والصناعات المرتبطة بتشكيل وجدان الناس تحظى باهتمام شديد واستثنائى من الدولة خلال السنوات الماضية، وبالطبع فالأسباب معروفة ومن نافلة القول التحدث عنها مجددا، لكن السؤال هو، هل نرى جميعا الإعلام بنفس الطريقة ونفس زاوية الرؤية؟
أولاً السيد الرئيس يرى الإعلام بمنظوره الاصلاحى والقيمى والأخلاقى الشامل، الرئيس يريد اعلاما يتميز بالوعى والصدق والجاذبية والتأثير والانتشار، يرى سيادته ان الإعلام من أهم الأدوات التى يمكن ان تساهم فى بناء الشخصية المصرية وإعادة دور القوة الناعمة للدولة المصرية، ولذلك نجده يطالب الإعلام دوماً بالاهتمام بالوعى والاستعداد بالأدوات، ثانياً الحكومة ترى الإعلام من زوايا اخرى تماما، حيث ان الحكومة تريد إعلاما يشيد بأدائها طوال الوقت وفى كل الظروف، الحكومات المصرية المتعاقبة لا تقبل النقد الحقيقى الجاد حتى ولو كان بناء، فالوزراء لا يحبون من يسير عكس اتجاه أفكارهم وقراراتهم، الكثيرون يرون ان الإعلام والصحافة هما أدوات فى يد الحكومة تستخدمها وقتما وكيفما تشاء، وهذا غير صحيح جملة وتفصيلا، ثالثاً المجتمع يرى الإعلام شغال عند الحكومة ويسبح بحمدها إلا القليل، هذا الانطباع لم يكن وليد الصدفة أو المرحلة وإنما أمر متوارث من أجيال سابقة، رابعاً الإخوان يرون ان الإعلام المصرى سلاح ضخم فى يد الدولة المصرية تؤدب به معارضيها ومنتقديها، خامساً رجال الأعمال يرون ان الإعلام يجب ان يكون متحدثا باسم القطاع الخاص ومهاجما للحكومة وقراراتها وملكيتها العامة، هذه الرؤى والزوايا المتباينة تجعل من نجاح مهمة الإعلام شديدة الصعوبة.
لذلك فمحاولات رسم خارطة طريق دون توحيد الرؤى اولا سيكون كمن انتهى إلى صب الزيت القديم فى قناة جديدة، نريد أولا تحرير المفاهيم المعقمة والمحنطة واستبدالها بأخرى جديدة وعصرية وتعكس واقعنا المعاصر، نريد الاتفاق على ضرورة استقلالية الإعلام عن الحكومة فلن أستطيع ممارسة حريتى المهنية فى ظل قيود حكومية معروفة، نريد ان يسمع كل منا الآخر ولا يحجر على صوته طالما كان هذا الصوت على أرضية الثوابت الوطنية المعروفة، نريد فك القيود عن الوثائق وتحرير المعلومات والبيانات من عقالها الوهمي، نريد ان يكون هناك صدر يتسع للنقد ووعى يستوعب التنوع وتنوع يليق بالمجتمع، نريد ان تدور عجلة التطور والتقدم دون ضجيج، لكن علينا ان نبدأ بأول الحكاية وأبسطها وهو أن نسمع بعضنا بعضا أولاً.