تبقى المظاهرات الداعمة للفلسطينيين والمناهضة لحرب الابادة الإسرائيلية فى قطاع غزة، كدليل وحيد فى هذا العالم على أن الضمير الإنسانى الدولى لم يمت وأنه مازال على قيد الحياة حتى وإن بدا «ضعيفا» أو «هزيلا» أمام نازية إسرائيل وجبروت الولايات المتحدة الأمريكية، فالمتابعة الدقيقة للمظاهرات بالمدن الكبرى فى العالم تكشف إلى حد بعيد أن معظم سكان الكرة الأرضية ضاقوا بما يحدث فى غزة وضاقوا أكثر بدعم أمريكا لإسرائيل وتجاهل الأخيرة للقرارات الأممية المتعلقة بوقف إطلاق النار فى غزة ونفاذ المساعدات لسكان القطاع، أيضا فإن القراءة السريعة لهذه المظاهرات تشير إلى مخاوف الناس من انهيار القيم الإنسانية وانعكاس ذلك بالسلب على النظم الديموقراطية، وخلق بيئة عالمية للتطرف تنمو فيها التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية.
>>>
وإذا كان من المستغرب لدى البعض أن يتجمع ملايين المتظاهرين فى كبرى العواصم الأوروبية وفى الولايات المتحدة نفسها للمطالبة بوقف نزيف دماء الفلسطينيين المستمر فى غزة وبوقف الحصار والتجويع لسكان القطاع، فإن المثير للدهشة بالفعل هو انتقال الصراخ بالرفض لقطاع كبير من الإسرائيليين ممن تظاهروا هذا الأسبوع فى تل أبيب ونددوا بهمجية حكومتهم رافعين صور الأطفال الضحايا ممن استشهدوا على يد جيش الاحتلال، وقد يرى البعض هنا أن تظاهر البعض من الاسرائيليين ضد ما يحدث فى غزة يأتى فى إطار المطالبة بالدخول فى صفقة مع حماس من شأنها الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين من الأموات والأحياء، غير أن هذا الطرح مردود عليه من داخل إسرائيل أيضا، بأن حرب الإبادة فى غزة جعلت من إسرائيل دولة مكروهة من شعوب العالم ومنبوذة من المجتمع الدولي.
>>>
هذه التطورات أجبرت الكاتب والسياسى الإسرائيلى السابق أبراهام بورج على الاعتراف بأن إسرائيل فقدت تأثير «الهولوكست» أو الإبادة الجماعية التى تعرض لها اليهود على يد النازى فى ألمانيا فى القرن الماضى وكانت سببا فى حصول إسرائيل على دعم استثنائى من ألمانيا ومعظم الدول الأوروبية سواء عند النشأة أو خلال العقود الماضية، وقال بورج: «فى حرب غزة، انهار كل شيء لا توجد أى طريقة لوصف إسرائيل كدولة مضطهدة، فالعالم بات يرى الواقع الذى يغض عنه الإسرائيليون طرفهم: مخيمات لاجئين تقصف، أطفال يدفنون تحت الأنقاض، مجاعة تنتشر فى القطاع، أحياء بأكملها مُسحت من الوجود، تدمير أنظمة الصحة والتعليم، وصحفيون يقتلون بشكل منهجي، وأمام هذه الصور الدموية لم يعد من الممكن تمسك إسرائيل بسردية أنها الضحية، فالآن هى المجرمة وهى التى تقوم بالإبادة الجماعية فى غزة».
>>>
وحقيقة فإنه رغم المظاهرات المشتعلة ضد إسرائيل فى معظم دول العالم، ورغم ما يبديه عدد كبير من قادة الدول من رفض السلوك الإسرائيلي، إلى جانب من نشهده من جدل وانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلى بسبب الحرب والحصار وإبادة أهل غزة، فإن الأمر المؤكد أن كل ذلك لن يغير من مخططات نتنياهو ولا من دعم امريكا له، فى ظل الملاحظات التالية:
> أن تداعيات ما يسمى بثورات الربيع العربى تركت آثاراً دامية فى عدد من الدول العربية ما جعلها ضعيفة وعاجزة عن أى رد فعل.
> أن إسرائيل تعمل على إشغال العرب والعالم بأطماع التوسع وما يسمى بإسرائيل الكبري، حتى تصل لهدفها الحالى المتعلق بتصفية القضية الفلسطينية والتخلص تماما من حل الدولتين.
> أن المخطط الإسرائيلى يتضمن عدة مراحل تشمل الاستيلاء على الضفة الغربية والسيطرة على قطاع غزة ثم تغييب السلطة الفلسطينية نهائياً، وقد بدت البوادر قبل أيام بإلغاء أمريكا لتأشيرات الرئيس محمود عباس ونحو 80 مسئولاً فلسطينياً وحرمانهم من المشاركة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
> أن إسرائيل لن تتوقف عن احتلال مساحات واسعة من لبنان ومن سوريا إلى جانب مواصلة الهجوم على الحوثيين فى اليمن، وذلك فى إطار التوسع والتخلص من أذرع إيران فى المنطقة كذلك ضمن احتمالات قائمة بشن حرب جديدة ضد إيران للتأكد من تدمير برنامجها النووي.
> أن مصر ليست بعيدة عن المخطط الإسرائيلى وأن محاولات تهجير سكان غزة إلى سيناء تظل متوقعة ومن ثم فإن الاستعداد لمواجهة هذا المخطط يجب أن تشمل المستوى الشعبى بنفس القدر الذى يتم على المستويين العسكرى والاقتصادي.
>>>
فى الأخير، فإن أسوأ ما فعلته حكومة إسرائيل الدموية أنها حرمت سكانها وشعوب المنطقة من السلام ومن الأمن والأمان، وهو ما سيتأثر به بدرجة أكبر الكيان الصهيونى مقارنة بالدول العربية، لأن الأخيرة ملكة الجغرافيا والتاريخ وصاحبة الثروات البشرية والطبعية، بينما ستظل إسرائيل كياناً «محتلاً» خائفاً ومرتعداً من أن تتغير بوصلة الإدراة الأمريكية فى واشنطن، أو أن يأتى اليوم الذى يتمكن فيه العرب والفلسطينيون من الانتقام ودحر الاحتلال وحرق تل أبيب.