يقف المسؤول في جميع دول العالم أمام تحدٍ كبير يتمثل فى كيفية مخاطبة المؤسسات الدولية والمحلية بلغة الاقتصاد، وهي لغة الأرقام القاطعة الغنية بالمصطلحات الفنية المتخصصة، والنسب والمؤشرات المالية، والمعايير الاقتصادية، والمقارنات الدولية. لكن نفس المسؤول يحتاج إلى إعادة صياغة هذه المؤشرات بلغة يفهمها “رجل الشارع”- أو المواطنين على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية. فالمواطن يقيس نجاح السياسات والإجراءات بمرجعيته اليومية وما يلمسه من تحسن فى جودة حياته وتكاليف معيشته.
وهنا يظهر تحدى التوازن بين لغة الاقتصاد ولغة الشارع فيما يسمى بـ”فجوة التوقعات”: فالمسؤول يعلن خبراً عن تراجع معدل التضخم، بينما المواطن يتساءل بدهشة: “أين هذا الانخفاض إذا كانت الأسعار ما زالت ترتفع؟”. فى الحقيقة بعد انخفاض التضخم من وجهة نظر “لغة الاقتصاد” إنجازاً وانعكاساً لتحسن أداء الحكومة وقدرتها على ضبط السياسات النقدية والمالية والسيطرة على وتيرة ارتفاع الأسعار، بما يحقق قدراً أكبر من الاستقرار الكلي، وفي الوقت نفسه يخفف تدريجياً من الضغوط المعيشية ويحافظ على القدرة الشرائية للأسر. بينما من وجهة نظر المواطن أو بـ “لغة الشارع” لا يُعد ذلك إنجازاً طالما لم تنخفض الأسعار بشكل ملموس في حياته اليومية، إذ يظل يقيس التحسن بما يلمسه فى فاتورة الكهرباء، أو فى أسعار المواصلات والسلع الأساسية كالخضروات والأرز واللحوم.
وهنا يظهر مثال افتراضى مبسط: إذا كان سعر كيلو الأرز 20 جنيهاً وارتفع العام الماضى بسبب التضخم بنسبة 30% ليصل إلى 26 جنيهاً، فإن استمرار التضخم بنفس المعدل كان سيرفع سعر كيلو الأرز هذا العام إلى 34 جنيهاً، لكن مع قدرة الحكومة على خفض التضخم إلى 20% فقط، ارتفع سعر كيلو الأرز هذا العام إلى 31 جنيهاً. نعم السعر ما زال في صعود، لكنه أقل وطأة، وهذا ما يقصده الاقتصاديون حين يتحدثون عن النجاح فى خفض التضخم.
هذه النقطة الدقيقة لا يفهمها المواطن تلقائياً، بل تحتاج إلى شرح مبسط من المسؤول بلغة قريبة من الناس، مثل أن يقول: “الأسعار ما زالت ترتفع، لكنها لم تعد تقفز كما فى الماضى، وهذا يخفف الضغط على ميزانية الأسرة تدريجياً. إذا غاب هذا التوضيح، تتحول لغة الاقتصاد أو لغة الأرقام إلى مصدر لسوء فهم وفقدان ثقة، بينما لو قُدمت بلغة واضحة تصبح رسالة مفهومة تمنح المواطن ثقة أكبر. وهنا يتأكد أن نجاح السياسات الاقتصادية لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بقدرة المواطن على لمس أثرها في حياته.
ويتضاعف أثر هذه الفجوة في الدول التي تعاني من نسب أمية مرتفعة وضعف الثقافة المالية، حيث يترجم المواطن الأرقام وفق معاناته اليومية. أما في دول مثل ألمانيا واليابان — حيث الأمية شبه منعدمة — يكون الخطاب الاقتصادى أقرب نسبياً للفهم المباشر. ومن ثم فإن الثقافة المالية والتعليم عنصران أساسيان في تضييق الفجوة بين لغة الاقتصاد ولغة الشارع، لكنهما لا يلغيانها تماماً. وقد شهد العالم أمثلة عديدة على ذلك. ففي فرنسا عام 2018، ورغم أنها دولة متقدمة تتمتع بوعي مجتمعي مرتفع ومستويات تعليم عالية، أعلنت الحكومة زيادة أسعار الوقود بحجة حماية البيئة وخفض الانبعاثات. لكن الخطاب ظل اقتصادياً بيئياً مجرداً، بينما لم يدرك المواطن الفرنسي سوى النتيجة المباشرة في حياته اليومية وهى “ارتفاع سعر البنزين. وهنا لم تشفع ثقافته أو مستوى تعليمه في تقبل القرار، فانطلقت احتجاجات “السترات الصفراء” التي هزّت الشارع الفرنسي وأظهرت أن تجاهل لغة الناس أو “لغة الشارع” قد يقود إلى فجوة خطيرة حتى في المجتمعات المتقدمة.”
وفي الأرجنتين عام 2018، أعلنت الحكومة نجاحها في خفض العجز الأولى في الميزانية إلى نحو 2.4% من الناتج المحلى الإجمالى، مقارنة بمستهدف متفق عليه مع صندوق النقد الدولي بلغ2.7%. هذا الإنجاز اعتبر على الورق نجاحاً مالياً مهماً لدى المؤسسات الدولية. لكن فى الوقت نفسه، كان المواطن الأرجنتينى يواجه تضخماً هو الأعلى منذ عقود، مما أنعكس مباشرة فى ارتفاع أسعار الغذاء والدواء والخدمات بصورة أثقلت كاهله. وهنا برزت بوضوح فجوة التوقعات: ما يُعد خبراً اقتصادياً جيداً للمؤسسات بدا بعيداً تماماً عن واقع الشارع، فاندلعت احتجاجات واسعة، لتكشف أن تحقيق التوازن بين لغة الاقتصاد ولغة المواطن ليس أمراً يسيراً.
وفي المقابل، هناك تجارب نجحت لأنها ربطت لغة الاقتصاد بحياة الناس اليومية. ففى البرازيل، لم تكتفِ الحكومة ببرنامج “بولسا فاميليا” (منحة العائلة)- وهو برنامج دعم نقدى مشروط للأسر الفقيرة مقابل التزامها بتعليم أبنائها ورعايتهم صحياً- بالحديث عن إعادة توزيع الدخل، بل خاطبت الناس بوضوح “ستحصل كل أسرة فقيرة على دعم نقدى مقابل تعليم أبنائها وحصولهم على كافة التطعيمات الصحية” وهنا تحولت لغة الأرقام إلى لغة حياة يومية، فوجد البرنامج قبولاً واسعاً. وفي إندونيسيا بعد أزمة 1997، لم يُطرح الخطاب فقط فى صورة نسب نمو، بل رُبط بالإسكان والخدمات الصحية والتعليمية، فصار الإصلاح أكثر قبولاً لدى المواطنين رغم صعوبته.
وفي مصر أيضاً نجد نموذجاً بارزاً فى مبادرة حياة كريمة. ففى المؤتمر الأول للمبادرة عام 2021، لم يكتفِ الرئيس عبد الفتاح السيسى بذكر الميزانية (700 مليار جنيه) أو عدد القرى (أكثر من 4 آلاف قرية) أو المستفيدين (أكثر من 58 مليون مواطن)، بل ركز على ما يلمسه المواطن: مدارس جديدة، مياه نظيفة، صرف صحى، وحدات صحية، وتحسين جودة الحياة فى الريف. الخطاب هنا انتقل من لغة الأرقام إلى لغة الشارع، فارتبط مباشرة باحتياجات المواطن اليومية. وجعل المواطن يشعر بأن الأرقام تتحول إلى واقع يلمسه فى تفاصيل حياته.
الخلاصة أن الخطاب الاقتصادى ليس مجرد بيانات جامدة أو شعارات إنشائية، بل هو أداة للتواصل وبناء الثقة. وما نحتاجه اليوم هو تجديد الخطاب الاقتصادى: أن نعيد النظر فيما نقول، ولمن نقول، ومتى نقول، وكيف نقول. فالمسؤول الناجح هو من يحقق التوازن الصعب بين دقة لغة الاقتصاد ووضوح لغة الشارع. فلغة الاقتصاد ضرورية لصناعة القرار، ولغة الشارع ضرورية لبناء الثقة، ولا غنى عن كليهما معاً لإدارة اقتصاد معقد. وبين هاتين اللغتين يقف المسؤول مترجماً وأميناً، يحافظ على دقة الأرقام، ويحوّلها إلى قصص واقعية يفهمها المواطن. وكما قيل قديماً “خاطبوا الناس بما يفقهون” بذلك فقط تتحول الأرقام من جداول جامدة إلى حقائق ملموسة، ويصبح الإنجاز الاقتصادى أيضاً إنجازاً اجتماعياً.