فى التاريخ لحظات فارقة، إما أن تختار الأمم فيها أن تعبر نحو المستقبل، أو تبقى أسيرة التردد حتى يبتلعها التيار. فى روما القديمة، حين عبر يوليوس قيصر نهر الروبيكون، كان يعرف أنه لا عودة بعد خطوته تلك، وأنه إما أن ينتصر أو يهلك. واليوم، نحن فى مصر أمام لحظة مشابهة؛ لقد عبرنا نهرنا الرمزي، وقررنا أن نمضى فى الطريق الذى لا رجعة فيه، لأن الزمن لم يعد يسمح بالانتظار، ولأن مصير الأوطان لا يحتمل التردد.
حين تتخذ الشعوب قرارًا مصيريًا، يصبح التراجع خيانةً لذاتها. نحن فى مصر لم يعد لدينا ترف الخيارات المتعددة؛ الطريق صار واحدًا وواضحًا: أن نعتمد على أنفسنا، أن نبنى بأيدينا، وأن نصمد بوعينا. لقد علمتنا التجارب المريرة أن الاتكال على الخارج سراب، وأن انتظار المنح والمعونات لم يجلب لنا إلا المزيد من الضغوط والإملاءات. اليوم ندرك أننا وحدنا من نصنع خلاصنا، وأن عبور الروبيكون يعنى أنه لا التفات إلى الخلف، بل مضيٌّ إلى الأمام مهما كانت التحديات.
ان أخطر ما يواجه الأوطان ليس العدو الخارجى فقط، بل تصدّع الجبهة الداخلية. لذلك كان الرهان الحقيقى على وعى المصريين، على صلابة وحدتهم، وعلى قدرتهم على إفشال كل محاولات التشكيك والتفتيت. لقد أدركنا أن وحدة الصف هى السلاح الأهم، وأن بناء الدولة يبدأ من الداخل، من ثقة الشعب فى نفسه وفى قيادته، ومن إيمانه بأن مستقبله لن يُهدى إليه، بل سينتزع انتزاعًا بعرق جبينه.
لقد عبرنا نهر الروبيكون حين قررنا أن نزرع لنأكل، أن نُصنّع لنستهلك، وأن نُصدّر لننافس. اخترنا أن نكسر قيود الاستيراد المذل، وأن نعيد بناء الصناعة الوطنية، وأن نستثمر فى عقول شبابنا قبل ثروات أرضنا. ولم يكن ذلك كلامًا نظريًا؛ فالأرقام تتحدث بلسانها: مصر التى كان لا يتجاوز المعمور فيها 6 ٪ من مساحتها، أصبحت اليوم، تمتد فى عمرانها إلى أكثر من 14 ٪، وهو تحول تاريخى يبرهن أن الإرادة حين تُترجم إلى عمل، تصنع المعجزات. لم يعد هناك متسع للأوهام، ولا مكان للكسالى والمتواكلين. فمن أراد أن يعيش كريمًا فى هذا الوطن، فعليه أن يعمل، أن ينتج، أن يحمل جزءًا من عبء النهضة.
لا شك أن التحديات جسام: أمن مائى مهدد، ضغوط اقتصادية عالمية، وإقليم ملتهب بالصراعات. لكن الفرص أيضًا كبيرة، فمن رحم الأزمات تولد أعظم النجاحات. والعبور الحقيقى لا يكون إلا عبر إدراك أن ما بيننا وبين أهدافنا هو جسر من العمل والعرق والإرادة. الروبيكون المصرى ليس نهرًا من ماء، بل نهر من تضحيات، لن نستطيع اجتيازه إلا بالوحدة والاصرار.
لقد عبرنا نهر الروبيكون، ولم يعد مسموحًا لنا أن نتراجع. إما أن نكمل الطريق بوعى وصبر وثبات، أو نُترك فريسة للضياع. والحق أن التاريخ لا يرحم المترددين، وأن الأمم التى تنجو هى التى تثق بنفسها وتتماسك جبهتها الداخلية. نحن اخترنا طريق النجاة، طريق الاعتماد على الذات، طريق التكاتف خلف مشروع وطنى يليق بمصر وشعبها. هذه هى الحقيقة: لم يعد لدينا خيارات، فلا بديل عن العبور، ولا بديل عن الانتصار.