سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل بأعظمها جداً ووقاراً وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم وتحويل مجرى التاريخ ثم يطيب نفساً للفكاهة ويطيب عطفاً على المتفكهين. ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ فللجد صرامة تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الحياة.. ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق إلا دلت على شئ من ضيق الحظيرة ونقص المزايا وإن نهضت بالعظيم من الأعمال.. فاستراحة محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى الفكاهة هى مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التى شملت كل ناحية من نواحى العاطفة الإنسانية، وهى المقياس الذى يبدى من العظمة ما يبديه الجد فى أعظم الأعمال.
والذى يظهر من الأحاديث أن النبى – صلى الله عليه وسلم – كان فى معظم أحواله.
لا يزيد عن التبسم، وربما ضحك أحيانا. أما الاكثار من الضحك والإفراط فيه فإنه يذهب الوقار، وهو ما ورد النهى عنه «لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب». ويضرب لنا النبى – صلى الله عليه وسلم – المثل الأعلى فى أريحيته وحبه لأصحابه وخاصة مع النعيمان بن عمرو أشهر الأنصار بالدعابة، لا يترك منها أحدا ولا يراه النبى – صل الله عليه وسلم – فيتمالك أن يبتسم.. وربما قصد النبى صلى الله عليه وسلم ببعض هذه الدعابات لطمعه فى حلمه وعلمه بموقع الفكاهة من نفسه. ففى يوم من الأيام جاء أعرابى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه، فقال بعض الصحابة لنعيمان : لو نحرتها فأكلناها ؟.. فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم النبى صلى الله عليه وسلم – حقها فنحرها نعيمان وخرج الإعرابى فرأى راحلته فصاح: «واعتراه يا محمد ! فخرج النبى يسأل : «من فعل هذا»؟ قالوا : نعيمان فاتبعه النبى حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى فى خندق وجعل عليه الجريد. فأشار إليه رجل ورفع صوته : «ما رأيته يا رسول الله» وهو يشير بأصبعه إلى حيث هو، فأخرجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وقد تعفر وجهه بالتراب فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم : «ما حملك على ما صنعت؟ قال : الذين دلوك على يا رسول الله هم الذين أمروني»! فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمسح عن وجهه التراب ويضحك.. ثم غرم ثمن الراحلة للإعرابي.
وفى يوم من الأيام سافر أبو بكر الصديق – رضى الله عنه – إلى بصرى تاجراً ومعه نعيمان بن عمرو الأنصارى وسويط بن حرملة عامله على زاده فجاءه نعيمان وطلب إليه طعاماً فأباه عليه حتى يأتى أبو بكر. فأقسم نعيمان ليغيظنه. وذهب إلى قوم فقال لهم : «تشترون منى عبداً لي» ؟ قالوا : «نعم» ! قال : إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: لست بعبده. أنا رجل حر.. إلى أشباه ذلك. فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا على عبدي».. قالوا : «لا.. بل نشتريه ولا ننظر إلى قوله «فاشتروه منه بعشر قلائص – القلوص من الإبل الفتية المجتمعة الخلق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها، ثم هى ناقة. جمعها: قلائص كما فى المعجم الوجيز – ثم أداهم إياه فوضعوا عمامته فى عنقه ولم يحفلوا بقوله، وجعلوا كلما قال لهم : «أنا حر !.. انه يتهزأ ولست أنا بعبده» سخروا منه وقالوا : بل عرفنا خبرك فدع عنك اللجاجة. فلما جاء أبو بكر رضى الله عنه – سأل عنه فقص عليه.
نعيمان قصته، وذهبوا جميعاً ليلحقوا بالقوم فيفتدوه ويعيدوه ثم قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فضحك من فعلة نعيمان ، وجعل يذكرها حولاً كاملاً كلما رآه
وأخيرا.. إذا مزح محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنما كان يعطى الرضا والبشاشة حقهما ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروءة. فكان مزاحه آية من آيات النبوة لأنه كان كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذى يستغرب من نبى كريم».