تقف البشرية اليوم عند مفترق طرق استثنائي وغير مسبوق، بعدما دخلنا عصراً أصبح فيه الذكاء الاصطناعي يغيّر كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية، لأنه ليس مجرد اختراع علمي بسيط، بل هو “دماغ رقمي” يوسّع آفاق الخيال والبحث واتخاذ القرار إلى ما يتجاوز حدود العقل البشري.
لقد أثّر هذا التطور في حياتنا اليومية، والاقتصاد العالمي، والطب، والتعليم، وحتى في الدين والروحانيات، فالذكاء الاصطناعي سرّع التشخيص والعلاج الطبي، وفتح الباب أمام إمكانية إطالة عمر الإنسان، بل إن بعض الخبراء لا يستبعدون أن يصل العمر البشري في المستقبل إلى ما يقارب الألف عام- كما كان في زمن النبي نوح عليه السلام.
فلم يعد الذكاء الاصطناعي محصوراً في وظائف محدودة للآلات، بل بدأ يبرز كـ”دماغ رقمي” قادر على تحليل المشكلات المعقدة، واتخاذ القرارات في المواقف الصعبة، وإدارة أنظمة الحكم والمجتمع بشكل أكثر فعالية، وبفضل الخوارزميات والحوسبة القوية، أصبح هذا الدماغ ليس فقط مكافئاً للعقل البشري بل متفوقاً عليه في مجالات عديدة.
على سبيل المثال:
• اتخاذ قرارات سريعة في مواجهة التغير المناخي أو الكوارث الطبيعية،
• تنظيم تدفق المرور في المدن،
• توجيه جهود الإغاثة وتوزيع الموارد أثناء الحروب أو الكوارث،
• تطوير التعليم من خلال جدولة الامتحانات والتدريس بفعالية.
البعد الديني والروحي
لقد وصل النقاش اليوم درجة يُطرح فيها دور الدماغ الرقمي حتى في القضايا الدينية، فقد نرى في المستقبل واعظاً أو إماماً رقمياً يخطب في المساجد والكنائس والمعابد، وقد يُصدر هذا النظام فتاوى مستندة إلى الأحاديث النبوية والروايات الدينية الموثوقة، والأهم من ذلك: سيكون متمكناً من جميع لغات العالم.
لكن يظل السؤال الكبير: هل يستطيع الدماغ الرقمي أن يفهم الروحانية والمشاعر والأخلاق الإنسانية كما يفهمها الإنسان؟
من المهم أن ندرك أن جذور الذكاء الاصطناعي قد وضعها علماء المسلمين قبل قرون عديدة محمد بن موسى الخوارزمي أسّس علم الجبر والخوارزميات، وهو أساس علوم الحاسوب اليو، والكِندي الذى طوّر نظريات فلسفية ومنطقية ورياضية أسهمت في تطور العلوم الحديثة، وابن سينا وابن الهيثم اللذين قدّما أعمالاً رائدة في الطب والبصريات، شكّلت قاعدة للتكنولوجيا الحديثة.
وهذا يذكّرنا بأن المسلمين كانوا روّاداً في مجالات العلم والتقنية.
رغم أن الذكاء الاصطناعي يحمل فوائد هائلة، إلا أنه يثير أيضاً تحديات خطيرة، فهل سيتمكن الدماغ الرقمي من استيعاب الأخلاق والمشاعر الإنسانية ، وهل سيجعل الاعتماد الكامل على الآلات الإنسان ضعيفاً وعاجزاً، أم هل ستتأثر قيمنا الاجتماعية وجوانبنا الروحية سلباً؟
هذه تساؤلات لا يجيب عنها العقل العلمي وحده، بل تحتاج إلى بصيرة أخلاقية وروحية أيضاً.
منذ بدايته، أولى الإسلام أهمية قصوى لطلب العلم، حيث كرر القرآن الكريم دعوة الإنسان إلى التفكير والتدبر، وقال النبي ﷺ: ” اطلبوا العلم ولو بالصين”، والمقصود هنا هو العلم النافع الذي يجلب الخير للبشرية، كما جاء في حديث آخر أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
ومع الأسف، حصر بعض العلماء المتأخرين هذه الأحاديث في العلوم الشرعية فقط، بينما في الحقيقة يشمل الإسلام كل علم نافع- كالطب والفلك والفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد تجلى حب المسلمين للعلم في مواقف عديدة ففي عهد النبي ﷺ أُطلق سراح بعض الأسرى غير المسلمين بشرط أن يعلّموا المسلمين القراءة والكتابة، وفي العصر العباسي أُنشئ بيت الحكمة كمركز ضخم للعلم والبحث، وفي الأندلس ازدهرت الجامعات والمدارس التي نقلت أوروبا إلى عصر جديد من المعرفة، وفي مدينة فاس بالمغرب تأسست أول جامعة في العالم- جامعة القرويين- على يد امرأة مسلمة، فاطمة الفهري، وقد اعترفت بها اليونسكو كمؤسسة تعليمية تاريخية عريقة.
ومع سقوط الخلافة العثمانية، فقد العالم الإسلامي قيادته العلمية، بينما فرضت القوى الاستعمارية هيمنتها، ما أدى إلى تراجع الإرث العلمي.
تفرض تحديات عصرنا ضرورة أن يحتضن العالم الإسلامي الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية بطريقة إيجابية، وبناء وحدة فكرية وثقافية ليُسخّر التكنولوجيا لخدمة الإنسانية، والتركيز على البعد الروحي إلى جانب المادي، حتى لا يبعدنا هذا التطور عن الله تعالى.
تشير الأحاديث النبوية والتنبؤات الإسلامية إلى أن المستقبل سيشهد ثورة روحية كبرى وحينها سيتناغم العلم والتكنولوجيا مع الروحانية، وستنتهي المادية، لتدخل البشرية عصراً روحياً جديداً.
إن الذكاء الاصطناعي والدماغ الرقمي هما في الوقت نفسه نعمة عظيمة و ابتلاء عظيم، ومسؤوليتنا أن نضمن استخدامهما لا في المصلحة المادية فقط، بل أيضاً في خدمة البشرية، وإحياء الروح، وتحقيق الخير الجماعي.
لقد دعا الإسلام دائماً إلى التقدم بالجمع بين العقل، والوحي، والعلم، وما زال هذا هو الطريق الصحيح بأن نجعل العلم الحديث في انسجام مع القيم الروحية، لنصنع مستقبلاً تكون فيه:
• المعرفة نوراً
• والتكنولوجيا خدمة
• والإنسانية عيشاً في ظلال المحبة والسلام.
وسيكون هذا العصر الجديد وسيلة تقرّبنا من الخالق لا أن تُبعِدنا عنه.