فى السنوات الأخيرة أصبح المشهد الإعلامى المصري، بل والعالمى عموماً، محكوماً بهاجس واحد اسمه «الترند».. لم يعد الترند مجرد مؤشر إلى تفاعل الناس أو تعبير عن اهتماماتهم اللحظية، بل تحول إلى غاية كبرى يسعى وراءها الجميع، أفراداً ومؤسسات، حتى صار وسواساً يبتلع العقول ويشوّه القيم.
الفكرة فى أصلها بسيطة.. ينتشر خبر أو صورة أو فيديو فى وقت قصير، فيصير حديث الناس ووسائل الإعلام.. لكن هذا الانتشار، بدل أن يكون انعكاساً لحدث حقيقي، أصبح هدفاً قائماً بذاته.. وهنا بدأ الخطر.. لم يعد يكفى أن ننتظر الأحداث، بل بات على بعض صناع المحتوى أن يفتعلوها افتعالاً، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة، أو الذوق، أو احترام عقول الجمهور.
قضية «هايدى كيس شيبسي»، لم تكن سوى مثال واحد فجّ على هذا الاتجاه.. القصة التى جرى تضخيمها وتحويلها إلى مادة للتعاطف والحديث العام كشفت كيف يمكن لواقعة عابرة أن تُبنى حولها روايات كاملة، وأن يُعاد إنتاجها فى شكل درامى مفتعل، لا لشيء إلا من أجل «الترند».. ومع مرور الوقت، اعتاد الناس على هذا النمط، فصاروا يتلقون هذه القصص بوعى ناقص أو أحياناً بلا وعي، بينما يحقق أصحابها أهدافهم من شهرة أو متابعة أو أرباح.
المشكلة الحقيقية ليست فى «الترند» ذاته، فهو انعكاس طبيعى لحركة المجتمع ورغباته، بل فى تحويله إلى هوس. حين يتحول الترند إلى معيار «مقياس وحيد للقيمة»، تُفقد الاعتبارات الأخرى مثل المصداقية، العمق، الجدية، وحتى الأخلاق.. يصبح كل شيء مباحاً ما دام يقود إلى «الترند»، وتصبح الحقيقة مجرد أداة يمكن تزييفها أو تهميشها.
هنا يبرز السؤال، هل نحن بحاجة فعلاً إلى مزيد من الضجيج المفتعل؟، هل نسعى لأن نكون مجرد متفرجين على مسرحيات سريعة تُبنى حول وقائع هامشية، أم أننا قادرون على صناعة محتوى أكثر جدوى وأطول عمراً؟
الجواب فى رأيي، يكمن فى العودة إلى القصص الإنسانية الحقيقية.. الناس بطبعهم يميلون إلى التعاطف مع البشر أكثر من تفاعلهم مع أى حدث مصطنع.. القصة الإنسانية، حين تُروى بصدق، لا تحتاج إلى مؤثرات زائفة أو حبكات مفتعلة.. هى تملك قوتها الذاتية، لأنها تنبض بالمعنى الذى يلمس الجميع.
لهذا يمكن للإعلاميين وصناع المحتوى أن يستبدلوا هذا الهوس بالترند المؤقت بمسار آخر، تقديم أفلام تسجيلية عن قصص واقعية عن أناس عاديين يواجهون تحديات الحياة، عن نجاحات صغيرة قد تلهم الكثيرين، عن مبادرات مجتمعية تُحدث فرقاً.. مثل هذه القصص لا تُخدع فيها الجماهير، بل تجد فيها ما يقتدى به ويُحتذي.
إن فيلماً تسجيلياً عن أم تكافح لتعليم أبنائها رغم قسوة الظروف، أو عن شاب يبتكر مشروعاً يخدم مجتمعه، قد يترك فى النفوس أثراً أبقى من مئات «الترندات» المفتعلة.. قد لا يحصد ملايين المشاهدات فى ليلة واحدة، لكنه يزرع قيمة تتجاوز اللحظة، ويعيد التوازن إلى مشهد إعلامى بات يلهث خلف كل ما يلمع ولو كان زائفاً.
لسنا ضد التكنولوجيا أو أدوات الانتشار السريع.. بالعكس، يمكن أن تكون هذه الأدوات جسرًا لإيصال القصص الصادقة إلى جمهور أوسع.. لكن المهم هو أن نحدد نحن أولوياتنا.. هل نستخدم المنصات لنلهو بمسرحيات فارغة، أم لنعرض من خلالها ما يرتقى بالوعى ويعمّق النقاش العام؟
ربما آن الأوان أن نعيد النظر فى علاقتنا بالترند، وألا نسمح له بأن يكون سيد الموقف دائماً.. الترند وسيلة لا غاية، وأداة لا مرجعية، ويمكن أن يكون مفيداً حين يسلّط الضوء على قضية عادلة أو مبادرة إنسانية. لكنه يصبح خطرًا حين يتحول إلى غاية فى ذاته، تبرر كل وسيلة وتسمح بكل خداع.
فى النهاية، يبقى الخيار لنا.. هل نترك وسواس الترند يبتلع الواقع ويشوّه الحقائق؟، أم نقرر أن نصنع إعلاماً يحترم العقول ويلامس القلوب بالقصص الحقيقية؟.. لعل الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من وعى كل فرد، ومن قرار صانع المحتوى بأن يختار الصدق على الخداع، والعمق على السطحية، والإنسان على الوهم.