منذ أن خدع إبليس آدم وأقسم له أن الشجرة الممنوعة هى شجرة الخلود، والشائعة تُستخدم كسلاح أولى لتزييف الوعي. تطورت الأدوات من الهمس فى المجالس، إلى الصحف والبيانات، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعى الذى يصنع اليوم صورًا وفيديوهات مزيفة تُنشر عبر آلاف الحسابات فى دقائق معدودة.
لم تعد الشائعة مجرد هواية سوداء لمريض نفسى يهوى الإيذاء، بل غدت «سلاحًا فتاكًا» تُديره إدارات متخصصة داخل أجهزة المخابرات والحروب النفسية. فالهدف ليس المعلومة فى ذاتها، بل ضرب الثقة، وتشويه الوعي، وإشعال الاضطراب قبل أى مواجهة عسكرية أو اقتصادية.
النار أسرع أم الشائعة؟
شاهدنا مؤخرًا كيف سبقت الشائعة ألسنة اللهب. فى يوليو الماضي، حين شبّ حريق ضخم فى مبنى «رامسيس إكستشينج» وسط القاهرة، وهو مركز اتصالات رئيسي، تضررت خطوط الهاتف والإنترنت، لكن الأخطر أن الشائعات عن «مخطط مدبر» انتشرت بسرعة مذهلة. الناس، المرهقون من انقطاع الخدمة، لهثوا وراء أى تفسير، فوجدت الأكاذيب طريقها إلى التداول أسرع من التحقيقات الرسمية.
هذه ليست حالة فريدة. فى الولايات المتحدة نفسها، أثناء حرائق لوس أنجلوس، اضطرت السلطات لتشكيل فرق خاصة لمواجهة شائعات انتشرت أسرع من الحريق ذاته. والنتيجة واضحة: إطفاء نار الشائعة أصعب مائة مرة من إطفاء نار الغابة.
مصر هدف الشائعات المنظمة
مصر أكثر دول المنطقة تعرضًا للشائعات خلال السنوات الأخيرة. السبب معروف: وجود فصيل إرهابى منظم يمتلك المال والكوادر والكتائب الإلكترونية. تبدأ القصة بتغريدة أو منشور، يلتقطها موقع تابع لهم، تعيد ترديدها قنوات مأجورة، ثم تنتقل إلى مواقع إخبارية أجنبية، فإلى منظمات حقوقية تصدر تقارير ملفقة، لتعود مجددًا عبر الصحف العالمية محملة بجرعة «مصداقية مصطنعة».
وهكذا تتحول جملة من بضع كلمات إلى ملف يتداول فى كبريات العواصم، وتُدار ماكينة تضليل كاملة ظاهرها كلمة بسيطة وباطنها مؤامرة متقنة. والأخطر أن هذه الشائعات تتضاعف مع الأحداث الكبري: من حرب غزة إلى أى أزمة اقتصادية أو حادث داخلي، حيث يصبح تشويه الوعى واستهداف الاصطفاف الوطنى هدفًا بحد ذاته.
لماذا تنجح الشائعة؟
الدراسات الحديثة تؤكد أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وضعف الثقة فى الإعلام، تجعل الجمهور أكثر عرضة لتصديق الشائعات وأقل قدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. فحين يتراجع صوت الإعلام المهني، ويغيب الشرح الشفاف، تصبح الساحة مهيأة لانتشار الأكاذيب، ويصبح المواطن هدفًا سهلًا لمروجى الشائعات.
التكنولوجيا سلاح مضاد
لكن المواجهة ليست مستحيلة. هناك تقنيات حديثة تُستخدم عالميًا لرصد الشائعات فى مهدها، تعتمد على الذكاء الاصطناعى لتحليل ملايين البيانات وكشف المحتوى المضلل بشكل فوري. بعض الدول سبقت فى هذا المضمار، بينما مازلنا فى حاجة إلى توظيف هذه الأدوات داخل منظومتنا الإعلامية والتعليمية، بعيدًا عن البيروقراطية وبشكل عملى قابل للتطبيق والقياس.
الكلمة الأخيرة
الشائعة لا تُوقفها الشعارات، بل يُوقفها المواطن الواعي، حين يرفض أن يكون مجرد ناقل لأكذوبة، وحين يُدرك أن كل مشاركة غير مدققة هى طعنة فى وعى المجتمع. على الإعلام أن يزيد من الشفافية، وعلى المؤسسات أن تضع خططًا عملية، وعلى الناس أن يتعلموا السؤال قبل التصديق.
فن تدوير الشائعات لن ينتهي، لكنه يفقد أثره إذا واجهه عقل يقظ ووعى حي. والدرس البليغ أن المجتمعات التى تحكم رباطها وتشد قِرَبها لا يغرقها تيار الأكاذيب. أما التى تستهين بالنصيحة، فستسمع يومًا صوت الحقيقة يقول لها: «يداك أوكتا وفوك نفخ».