يُحكى أن رجلاً أراد أن يعبر النهر. أحضر قربة من جلد قديم، وبدأ ينفخها بفمه ثم أوكَى فمها بيديه، أى ربطها، لكنه لم يُحكم الرباط، ولم يُتقن النفخ. فرآه الناصحون فقالوا: يا رجل، شدّ وثاق القربة وأعد النفخ، فالنهر غدار والموج عالٍ، وإن تركت القربة هشة فلن تنجو. لكنه استهزأ بهم، وركب قربته واندفع إلى عرض النهر.
وفى منتصف الطريق، بدأت العقدة تنفك، وبدأ الهواء يتسرب، وبدأ الرجل يغوص شيئاً فشيئاً. صاح، صرخ، استغاث، لكنه لم يجد من يسمعه أو ينقذه. فارتفع صوت النهر قائلاً له: «لا تلومن إلا نفسك… لقد أوكيت بيديك، ونفخت بفمك، فأنت سبب غرقك.»
هذه الحكاية الشعبية تختصر فلسفة الحياة كلها: أن الإنسان هو المسئول الأول عن أفعاله، وأن قراراته الصغيرة قبل الكبيرة هى التى تصنع مصيره. كثيرون يظنون أن الاستهانة بالتفاصيل أو تجاهل النصائح لا يضر، لكن الحقيقة أن الشرخ الصغير هو الذى يغرق القارب، والرباط المهمل هو الذى يبدد الجهد كله.
فى الحياة اليومية، كم من إنسان يرفض أن يسمع نصيحة صادقة، ويظن أنه أذكى من الجميع، ثم حين تأتيه العواقب، يبدأ بالشكوى وإلقاء اللوم على الآخرين. بينما لو عاد إلى نفسه قليلاً، لأدرك أن يديه هما من أوكتا، وأن فمه هو من نفخ، وأنه هو المسئول عن النتيجة.
هذه الحكمة تنطبق على العمل والدراسة والعلاقات الإنسانية وحتى الصحة. الطالب الذى يستهين بالمذاكرة ثم يسقط فى الامتحان، لا يلومن إلا نفسه. الموظف الذى يهمل عمله ثم يتعجب من فقدان فرصه، لا يلومن إلا نفسه. من يعبث بصحته ويهمل جسده ثم يشكو المرض، لا يلومن إلا نفسه. ومن يستهزئ بالتحذيرات فى علاقاته، فيجرح الآخرين أو يفقدهم، عليه أن يتذكر أن يديه أوكتا، وفمه نفخ.
المغزى الأعمق هنا أن الحياة لا تجامل أحدًا. إنها تعطى كل إنسان على قدر جهده، وترد له ما زرع. فلا مجال للتهرب من المسئولية ولا لإلقاء الفشل على الظروف أو على الناس. حتى الظروف القاسية لا تعفى الإنسان من دوره فى أن يحسن اختياره، ويشد رباط قربته جيدًا، ويستعد لعبور النهر بما يملك من عزيمة وعقل وحكمة.
إننا جميعاً نركب قِرَباً فى أنهار الحياة. بعضنا يُحكم الرباط ويصغى للنصح، فيعبر إلى الضفة الأخرى بسلام. بعضنا يستهين ويستكبر، فيجد نفسه يغوص فى منتصف الطريق. والفرق بينهما ليس فى النهر ولا فى التيار، بل فى اليد التى أوكت والفم الذى نفخ.
الحكمة الخالدة تقول: لا تلومن إلا نفسك. فمن يُحسن الإعداد، يُحسن الوصول، ومن يستهين بالمقدمات، يُفاجأ بالنهايات. نحن صُنّاع أقدارنا بقراراتنا الصغيرة قبل الكبيرة، وكل رباط نشده بإتقان هو أمان لرحلتنا الطويلة.
فلنتذكر دائماً أن تفاصيل اليوم هى التى تصنع مصير الغد. وأن الحياة لا تُكافئ من يسخر من النصيحة، بل تُكافئ من يتواضع ويتعلم ويستعد. وحين يعبر كل إنسان نهره، لن يسمع فى النهاية إلا صدى الحقيقة الأبدية: «يداك أوكتاه وفوك نفخ».
هذا المقال له قصة أشرحها فى مقال الغد بإذن الله.