في ركن بأحد المقاهي على الكورنيش كنا مجموعة من الأصحاب يدور بيننا أحاديث وذكريات أوقفها لثوان معدودات صوت (فيروز) عندما حلق في جنبات المكان ليعمق إحساسنا بالحياة وجمالها وعذاباتها وهي تشدو بكتب اسمك يا حبيبي على الحور العتيق تكتب اسمي يا حبيبي على رمل الطريق… ثم انتبهنا على صوت أحد الأصحاب الذي ربما أعادته الأغنية إلى ذكرى معينة فسأل صاحبه الجالس أمامه هل تتذكر زميلتنا (وهج) هذا اسمها فيرد عليه باهتمام بالغ نعم.. مالها؟ فيقول السائل صادفتني منذ أيام وزوجها زميلنا (أكمل) هل تتذكره؟ فجاءت الإجابة فورية وبعصبية رد صاحبنا لا أحد يتذكره! ونظر إلينا فالتزمنا الصمت بينما نسمع مقطع بكره بتشتي الدنى على القصص المجرحة يبقى اسمك يا حبيبي وأنا اسمي بيتمحي.
بين رمل الطريق والحور العتيق – شجرة صفصاف قديمة – تكمن ثنائية – النسيان والذاكرة ، ونسأل : هل النسيان شرط أساسي للتطور الإنساني وتطوير الذات كما رأي الفيلسوف الألماني (نيتشه) بينما يعبر كثير من الناس عن خوفهم من نسيانهم بعد زوالهم ولذلك فهم يحرصون على تذكر الآخرين لهم؟ ويطرح الكاتب الفرنسي “جان لومبار” سؤاله عن النسيان في قرننا المشغول بذاكرة استدعاء الماضي وإحياؤه هروباً من الحاضر المروع.
أليس النسيان هو السلاح المشهر في وجوهنا ويهددنا بزوال ما نفعل وملاحقه ما سوف نقوم به، إنه يمثل لنا الفقدان والنقصان والمحو والنكران والاضطراب والاحتياج والتقصير، كما عبر نجيب محفوظ ذات يوم: آفة حارتنا النسيان، وفي المقابل فإن النسيان مواساة واستعداد للقادم أو بتعبير محمود درويش آخر الليل نهار.
وعندما نحكي لشخص قريب منا فتقول له : ذكرني بفعل كذا فإننا نمنحه تفويض بسلطة لسنا على يقين من قدرتنا على ممارستها، وعندما نستخدم نحن السلطة ذاتها فنقول لآخر: لا تنسى أن تفعل هذا أو ذاك، وفي الحالتين نحن واقعين في قبضة النسيان الذي بدوره يتخلى عن كل سلطاته للذاكرة.
هل يعد النسيان فقدان؟ إحدى تعريفات علم النفس للنسيان هو الفقدان إما طواعية، أو بصورة نهائية أو مؤقتة، فقدان سوى أو مرضي تجاه إنسان أو شيء. ومن الجدير بالذكر أننا نتخيل الذاكرة صاحبة السلطة الكاملة على الوعي الإنساني لكن المستغرب أن النسيان يفاجئنا ويطيح بسلطة الذاكرة عندما يظهر أن ما تصورنا أننا نسيناه يطل من جديد على ساحة الوعي.
وعلى سبيل المثال عندما يحكى أحدنا عن موت حبيب لديه فيقول أعلم جيداً أنه مات لكن لا أتصور أنه لم يحضر معنا هذه المناسبة! إنه حضرة الغياب بتعبير (محمود درويش) هل الأمر كما يتصوره الفيلسوف الفرنسي “لاكان” عندما رأى اللاوعي بالنسبة للإنسان هو ذاكرة ما تم نسيانه! إننا عندما نكتب ننسى ما حفظناه من حروف الأبجدية وعندما نتعلم السباحة فإنه ضروري أن ننسى الماء ، ومن ثم فإن كل مهاراتنا أو معرفتنا هي عندما ينسى الوعي نفسه عند الفعل.