فى خطوة عبثية مثيرة للجدل والاستغراب أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا أنها لن تمنح تأشيرات دخول لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وعدد من المسئولين الفلسطينيين، وذلك على خلفية إعلان بعض الدول الأوروبية الاعتراف بالدولة الفلسطينية. القرار جاء ليكشف مرة أخرى عن حقيقة الوجه الصارخ للسياسة الأمريكية حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، ويعيد إلى الأذهان مشهدًا تاريخيًا شهده العالم قبل ما يقرب من أربعة عقود، حينما رفضت واشنطن منح الزعيم الراحل ياسر عرفات تأشيرة دخول لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك عام 1988.
يومها لم تقف الجمعية العامة مكتوفة الأيدى أمام هذا التعسف، بل اتخذت قرارًا غير مسبوق بالانتقال إلى مدينة جنيف السويسرية، لتتيح لعرفات أن يلقى بيانه التاريخي. وهناك، من على منصة الأمم المتحدة، قال عباراته الشهيرة التى سُجلت فى ذاكرة التاريخ: «لقائى معكم اليوم فى جنيف بعد أن حال قرار أمريكى جائر دون ذهابى إليكم هنالك، هو مصدر اعتزاز وسعادة لي.. قرار جمعيتكم الموقرة لم يكن انتصارًا على القرار الأمريكي، ولكنه انتصار الإجماع الدولى للحق ولقضية السلام».
كان ذلك المشهد بمثابة انتصار رمزى كبير للقضية الفلسطينية، ورسالة بأن المجتمع الدولى قادر على كسر قيود الهيمنة الأمريكية حينما يتعلق الأمر بالحق.
اليوم، ونحن فى عام 2025 يتكرر الموقف وإن اختلفت التفاصيل. فالولايات المتحدة ترفض منح التأشيرات لعباس وعدد من مسئولى السلطة، وتبرر ذلك بدواعٍ أمنية وباتهام الفلسطينيين باستخدام «القانون والدبلوماسية» للحصول على اعتراف بدولتهم بعيدًا عن مسار التفاوض. غير أن المفارقة أن هذا المبرر يأتى فى لحظة تشهد فيها القضية الفلسطينية اعترافًا أوروبيًا متناميًا، بما يعكس أن العالم يتحرك بينما واشنطن لاتزال أسيرة حسابات سياسية داخلية وضغوط إسرائيلية معلنة.
يبقى السؤال الكبير: هل يتكرر مشهد 1988؟ هل يضطر المجتمع الدولى مرة أخرى إلى نقل جلسة من جلسات الجمعية العامة إلى جنيف أو مدينة أخري، كى يتمكن محمود عباس من إلقاء بيان فلسطين أمام العالم؟ حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات رسمية على ذلك، والجلسات لاتزال مقررة فى نيويورك. لكن مجرد طرح السؤال يكشف عن عمق الأزمة، ويعكس هشاشة صورة الولايات المتحدة كدولة مضيفة للأمم المتحدة، ملزمة بموجب اتفاقية المقر بأن تتيح لجميع الوفود، مهما اختلفت، الحضور والمشاركة.
فى واقع الأمر، القضية ليست مجرد إجراءات تأشيرة، بل هى انعكاس لمعركة الشرعية والرواية، الولايات المتحدة، بقرارها، تحاول سحب الشرعية من الموقف الفلسطيني، لكنها فى الحقيقة تمنح الفلسطينيين فرصة لتكرار مشهد رمزى يشبه ما فعله عرفات قبل 37 عامًا. فالعالم اليوم مختلف: هناك موجة متصاعدة من الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية، وهناك تعاطف شعبى عالمى مع حقوق الفلسطينيين، وهناك عجز أمريكى عن إخفاء الانحياز المطلق لإسرائيل.
من هنا، فإن تكرار مشهد جنيف ليس مستبعدًا، وإن لم يحدث بصورة رسمية. قد لا تُنقل الجلسات بكاملها كما حدث فى 1988، لكن من المؤكد أن المنع الأمريكى سيحوّل خطاب عباس، أينما أُلقي، إلى حدث رمزى يعيد إلى الأذهان كلمات عرفات: «قراركم لم يكن انتصارًا على القرار الأمريكي، ولكنه انتصار للحق».
إن القضية الفلسطينية اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي. إما أن يستمر المجتمع الدولى فى الاستجابة لضغوط واشنطن، فيكرّس حالة الكيل بمكيالين، أو أن يتحرك مجددًا ليعيد إنتاج لحظة 1988 حين انتصر الضمير الإنسانى على غطرسة القوة. وبين هذا وذاك، تبقى فلسطين قضية ضمير عالمي، لا تموت مهما حاول البعض خنق صوتها أو إقصاء ممثليها.
وفى النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نشهد فى سبتمبر 2025 تكرار المشهد التاريخى من جنيف، ولكن هذه المرة مع محمود عباس؟ الأيام القادمة وحدها ستجيب، لكن المؤكد أن التاريخ علمنا أن الحق وإن تعثر، لا يموت.