عندما نتحدث عن الغرب، وعن ديمقراطياته العريقة التى طالما تغنّى بها قادة أوروبا، نظن أننا أمام أنظمة صلبة، لاتهتز أمام نزوات فرد أو انفعالات زعيم. غير أن المشهد تغيّر كلياً مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فجأة، تحوّل القادة الأوروبيون – الذين لطالما قدّموا أنفسهم كحماة الحرية وعرّابى الديمقراطية – إلى مجرد مريدين فى حضرة سيد جديد، يسعون إلى إرضائه بالكلمة والابتسامة، ويتسابقون فى تقديم الولاء العلنى والباطني. وهنا يطل علينا مفهوم «التملق المنضبط»، الذى مارسه الأوروبيون مع ترامب بمهارة سياسية، لكنه فى حقيقته ليس إلا صورة من صور النفاق الممنهج.
ترامب، الذى لم يُخف يوماً ازدراءه للتحالفات التقليدية ولا احترامه الشكلى لمؤسسات الديمقراطية الغربية، كان قادراً بكلمة واحدة أو تغريدة عابرة أن يربك عواصم كبرى مثل باريس وبرلين ولندن. رأيناه كيف كان يهدد بالخروج من حلف الناتو إن لم يرفع الأوروبيون إنفاقهم الدفاعي، وكيف كان يعايرهم بأنهم يعيشون تحت مظلة الحماية الأمريكية بالمجان. وهنا، بدل أن يقف القادة الأوروبيون وقفة ندّية تدافع عن كرامة القارة العجوز، انحنوا أمامه، يقدّمون له التنازلات، ويبتسمون فى وجهه ابتسامة من يعرف أنه مضطر إلى المسايرة.
لقد تحوّل التملق إلى سياسة خارجية أوروبية. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل – رمز التوازن والعقلانية – كانت تجلس أمام ترامب وتستمع باهتمام مفتعل، وهى التى تعرف تمام المعرفة أنه لا يحترم حتى أقرب حلفائه. إيمانويل ماكرون، الرئيس الشاب الطموح، بالغ فى الاحتفاء بترامب خلال زيارته إلى باريس عام 2017، حتى أنه خصّه باستعراض عسكرى غير مسبوق، فى محاولة لاستمالته. أما بوريس جونسون، فقد رأى فى ترامب فرصة لإعادة صياغة علاقة بريطانيا بواشنطن بعد «بريكست»، فدخل على خط المديح المكشوف، مقدماً نفسه كصديق وفيّ للرئيس الأمريكى المثير للجدل.
هذا المشهد لم يكن مجرد مجاملات دبلوماسية، بل كان انعكاساً عميقاً لهشاشة النظام الديمقراطى الغربى أمام نزوات الفرد القوي. الغرب الذى طالما صدّر لنا خطاب «القيادة الجماعية»، و«احترام المؤسسات»، و»سيادة القانون»، سقط سريعاً أمام تغريدات ترامب النارية. والنتيجة: لم تعد الديمقراطية الغربية كما كانت، بل ظهرت على حقيقتها كمنظومة قابلة للاهتزاز والانحناء عند أول اختبار جدي.
إن التملق المنضبط، كما مارسه الأوروبيون، لم يكن عفوياً ولا وليد لحظة، بل كان حسابات سياسية باردة: كيف نحافظ على مصالحنا أمام رئيس متقلّب المزاج؟ كيف نضمن بقاء المظلة الأمريكية التى تحمينا من الدب الروسي؟ وكيف نتفادى خسارة أكبر سوق استهلاكية فى العالم؟ لكن هذه الحسابات أظهرت أن الديمقراطية الغربية ليست سوى واجهة أنيقة، يمكن التضحية بمبادئها فى أول مواجهة مع مصلحتها.
ولعل أخطر ما كشفه هذا التملق أن أوروبا – التى طالما أرادت أن تكون قوة مستقلة – ما زالت أسيرة الإرادة الأمريكية. فإذا كان ترامب، بكل ما حمله من فوضوية وشعبوية، قد أجبرهم على الانحناء بهذا الشكل، فماذا لو جاء بعده رئيس أكثر تطرفاً أو أكثر عنفاً؟ حينها ستتضح الصورة أكثر: النظام الديمقراطى الغربى هش، يفتقر إلى القدرة على الاستقلال، ويحتاج دائماً سيداً فى البيت الأبيض ليأخذ موافقته قبل أن يتحرك.
إن ما شهدناه ليس مجرد صفحة عابرة من التاريخ السياسي، بل درس بالغ الدلالة: أوروبا، بكل جبروتها الاقتصادى والثقافي، مارست التملق المنضبط أمام ترامب، وقبلت أن تُظهر ضعفها حفاظاً على مصالحها. وهذا يعطينا نحن – شعوب الشرق – يقيناً بأن الغرب الذى يبيعنا شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يمارس فى داخله أبشع صور النفاق والتبعية.
التملق المنضبط كان عنوان المرحلة، لكنه فى جوهره فضح زيف الشعارات وكشف ضعف البنيان. الغرب لم يعد تلك القلعة الحصينة للديمقراطية التى يتشدقون بها، بل هو بيت هش، يكفى أن يمر عليه إعصار ترامب ليتكشف خواؤه من الداخل.









