فى صحائف الحروب الكبرى هناك دائمًا سطرٌ يظلّ أسودَ مهما اختلفت الأقلام، وفى حرب غزة الممتدة منذ أكتوبر 2023، كتبت إسرائيل ذلك السطر الفاجع: «تحويل شعبٍ كامل إلى رهينة الجوع، ثم دفعه – تحت وابل النار والحصار – إلى حافة اقتلاعٍ جماعى من المكان والزمان»، هنا لا نتحدث عن «أضرار جانبية» بل عن منهجٍ فى إدارة الحرب «تجويعٌ ممنهج، تدميرُ مقومات الحياة، وتقويضُ إمكان البقاء».
لم يعد الحديث عن «خطر» المجاعة فى غزة تقديرًا سياسيًا؛ بل صار تشخيصًا أمميًا، لجنة مراجعة المجاعة التابعة للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائى (IPC) أكدت فى أغسطس 2025 وقوع فِعل المجاعة فى غزة، فيما توثّق اللقطات الإنسانية ارتفاع سوء التغذية الحاد فوق عتبات المجاعة.
وتحدث خبراء أمميون صراحةً عن استخدام التجويع كسلاح حرب، وهو جُرم تحظره القوانين الدولية بأوضح العبارات، إنهم يقولون ما يراه الناس:عندما تُحاصَر الأفران، وتُمنَع الوقود والدواء، وتُقصف نقاط توزيع المساعدات، يصبح الجوع قرارًا عسكريًا لا ظرفًا قدريًا.
تقترب حصيلة الشهداء الفلسطينيين من حاجزٍ مروِّع تجاوز 62 ألفًا، وفق تحديثات متقاطعة فى الأيام الأخيرة، فيما تتساقط الضحايا من الجوع والمرض إلى جانب القصف.
لغة الميدان لا تخطئ: نزوحٌ دائم، مناطق آمنة تتحول إلى مصائد، عودةٌ مستحيلة إلى البيوت المهدّمة، وحقوقيون ومنظمات دولية حذّروا من التهجير القسرى كسياسة أمر واقع، بما يلامس تعريف «التطهير العِرقي» فى القاموس القانونى والأخلاقي.. حين يُدفَع الناس من مربعٍ إلى آخر تحت نيرانٍ مستمرة، وحين تُستهدف مقومات البقاء، فإننا لا نرصد مجرد حربٍ على تنظيم، بل هندسة ديموجرافية لقطاعٍ كامل.
التاريخ لا يرحم؛ فهو يضع الضحية والجلّاد تحت ضوءٍ واحدٍ كاشف، ما ارتُكب بحق اليهود فى أوروبا بالقرن العشرين كان عارًا إنسانيًا مطلقًا. لكن الأخلاق لا تتجزَّأ: وليس ما حدث رخصة لليهود وإسرائيل لاستخدام الجوع كأداة حرب، وتُحيل مدنًا إلى ركام، وتُنكِّل بالمدنيين والصحفيين والأطباء، فإنها لا تستحضر مآسى الأمس لتتعظ، بل تُكرّر منطقها: نزع إنسانية «الآخر» تمهيدًا لإخراجه من الوجود العام. هذه ليست مقارنة أهوالٍ بقدر ما هى تحذيرٌ أخلاقي: أن يتحوّل من نجا من المحرقة إلى من يُنتج محرقةً صامتةً بالحصار والحصار المضاد.
من أجل ذلك كله ومن خبرة المنطقة، كانت مصر دائما صاحبة الرؤية الصائبة بأن الحلّ سياسى أو لا يكون من خلال التالي:
1 – وقفٌ فوريٌ لإطلاق النار وفتحٌ شاملٌ ودائمٌ للممرات الإنسانية بإشراف أممي.
2 – التزامٌ مُلزِمٌ بأحكام محكمة العدل الدولية وتوسيع آليات الرصد والعقوبات عند التعطيل.
3 – ممرٌّ مُحكَم إلى تسوية نهائية تُنهى الاحتلال وتضمن حقوق الفلسطينيين، وعلى رأسها الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
4 – عدالةٌ انتقالية تُوثّق الانتهاكات وتُحاكم مرتكبيها أيًّا كانوا، لأن السلام بلا عدالة هدنةٌ على رمال متحركة.
فى المحصلة.. خطايا غزة ليست عارضًا فى مناخ السياسة، بل وصمةٌ أخلاقيةٌ كبرى تُعيد وضع العالم أمام مرآته، والتاريخ سيكتب – كما كتب دائمًا – وسيذكر بالأسماء: من منع عن الجائع لقمةً، ومن فتح له الطريق إليها.