الطموح من أنبل ما تمتلكه النفس البشرية، فهو المحرك الأول للتقدّم والرقي، والدافع لتحقيق الأحلام والتطلعات. لكنّ هذا الطموح قد يتحوّل إلى سلاحٍ مدمّر إذا ما انفصل عن القيم، وتحرّر من ضوابط الأخلاق، وانجرف وراء تحقيق الغايات بأى وسيلة. فى هذا التحوّل، يفقد الطموح جوهره البنّاء، ويصبح قوة هدامة تترك أثرًا سلبيًا على الفرد والمجتمع، فالطموح الأعمى لا يعترف بحقوق الآخرين، ولا يقف عند حدود المبادئ، بل يتخطاها طمعًا فى مكانة أو سلطة أو مكسب سريع. وهنا، تظهر الأخطار الحقيقية التى تهدد كيان المجتمعات، وتشوّه صورة النجاح.. الأديان والشرائع السماوية لم ترفض الطموح، بل شجّعت عليه ما دام فى إطار المروءة والعدل، وجعلت منه وسيلة للارتقاء بالذات وخدمة الآخرين. فالإنسان الناجح ليس من يصل إلى القمة بأى ثمن، بل من يحقق طموحه فى إطار من الأخلاق والرحمة والضمير، ويترك أثرًا طيبًا خلفه.. إن الطموح الصحيح هو ما يبنى الإنسان قبل أن يبنى الإنجاز، وما يسمو بالنفس قبل أن يسمو بالمكانة. الطموح فى صورته النقية نعمة من نعم الله على البشر، يزرع فيهم الأمل، ويمنحهم الطاقة للاستمرار. ولكن الطموح إذا تجرد من القيم، وتحرر من الضمير، قد يتحول إلى لعنة تهدد الفرد والمجتمع.. حين يُختزل الطموح فى حب السلطة، أو الجرى وراء المال، أو التمسك بالمكانة الاجتماعية دون اعتبار للطريق المؤدى إليها، يبدأ الانحدار الأخلاقى فى الظهور. يصبح الإنسان أسيرًا لغايته، يتجاهل فى سبيلها المبادئ، ويتجاوز كل الخطوط الحمراء التى تحفظ كرامته وكرامة الآخرين. وهذا النوع من الطموح لا يحقق بناءً حقيقيًا، بل يهدم بصمت، ويزرع بذور الفساد فى أعماق النفوس.. الأديان السماوية لم تُحرّم الطموح، بل دعت إليه وشجّعت عليه، ولكنها وضعته فى إطار أخلاقى راقٍ، يضمن أن يكون السعى نحو التميز مصحوبًا بالتواضع، وأن يكون حب النجاح مرتبطًا بالإحسان، وأن يكون بلوغ القمة وسيلة لرفع من حولنا لا لدهسهم. الإنسان الطموح هو من يسعى للنجاح دون أن يؤذى أحدًا، من يخطط بتأنٍّ ويعمل بضمير، من يفرح بنجاحه دون أن يشعر الآخرين بالنقص، من يرى فى تفوّقه رسالة لا امتيازًا. هذا الإنسان، وإن لم يصل إلى أعلى المناصب، فإنه يظل شامخًا فى أعين الناس، عظيمًا فى ميزان القيم.. ولكن حين يصبح الطموح وسيلة لإثبات الذات على حساب الآخرين، يتحوّل إلى أنانية مفرطة. حين يغيب التعاطف والتسامح من طريق النجاح، يصبح الوصول مجرّد تسلّق. وهذا ما يؤدّى فى النهاية إلى خسارة الإنسان لنفسه، حتى وإن ربح العالم كلّه. الطموح ليس عدوًا، لكنه يحتاج إلى عقلٍ واعٍ، وقلبٍ نقي، وضمير حيّ. الطموح وحده لا يصنع الإنسان، بل الأخلاق هى التى تمنحه المعنى الحقيقى للارتقاء. حين يكون الطموح مقرونًا بالمسئولية، والمبادئ، والنية الخالصة، يصبح طوق نجاة يرتقى بالمجتمعات، ويمنح الأفراد السعادة الحقيقية. أما إذا انفلت من تلك القيود، وتحول إلى غاية أنانية، فهو الخطر الأكبر الذى يهدد الاستقرار والإنسانية معًا. بعض النفوس حين تتذوق طعم الطموح، تُصاب بالظمأ، فلا تكتفى بقدر، ولا تقف عند حد. تبدأ فى التسلق دون النظر تحت الأقدام، تسعى إلى المجد على حساب الحق، وتطلب العلو ولو بسقوط الآخرين. هنا، يفقد الطموح صفاءه، ويتحول إلى أنانية مفرطة، وإلى لهاثٍ لا ينتهى خلف سلطة أو شهرة أو مال.. إن الطموح بلا ضمير لا يصنع إنسانًا نبيلاً، بل يخلق شخصية جوفاء، ظاهرها لامع، وباطنها هشّ. النجاح الحقيقى ليس فى الوصول فحسب، بل فى الكيفية التى وصل بها الإنسان. فهناك من يصعد السلم درجة درجة، وهناك من يكسر السلم ليصعد وحده. الأول يُحترم ويُحتذي، والثانى يُخاف منه ويُحتقر.. الطموح كالنار، إن أحسنت إشعالها أضاءت لك الطريق، وإن تركتها بلا رقابة احترقت بها. هو طاقة عظيمة، لا يجب كبتها، ولا تركها تنفلت بلا توجيه. فالحياة لا تُبنى بالتمنّى فقط، ولا تتحقق الإنجازات بالتراخي، ولكن الطموح وحده لا يكفي، إن لم يكن مصحوبًا بضميرٍ صاحٍ، وقلبٍ عادل، وعقلٍ متزن.. وختاما فإن الطموح الذى نحتاجه هو ذلك الطموح الذى يرفع الإنسان دون أن يُسقط الآخرين، ويمنحه شعورًا بالإنجاز دون أن يجرّده من إنسانيته. الطموح الذى لا يُنسينا فضل من حولنا، ولا يجعلنا نتجاهل القيم التى تربينا عليها. طموح يبنى ولا يهدم، يضيف ولا يُقصي، يُلهب الحماس لكنه لا يُطفئ الضمير.. وما أجمل الإنسان الطموح إذا كان متواضعًا يسعى فى الأرض بخطى ثابتة، يحمل فى قلبه الخير للناس، ويرى فى كل نجاح فرصة للعطاء، لا للغرور.
حفظ الله مصر
حما شعبها العظيم وقائدها الحكيم