يشغلنى كثيرا التناقض الفج فى الغرب فى التعامل مع حرية الصحافة حين تكون خاصة بهم وبغض النظر عما قد يصيب مشاعر أو معتقدات أو آراء الآخرين، هناك الحرية بلا سقف، ومظاهر الإسناد والاستناد جاهزة على إعلانات حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التى تحمى الصحافة و حرية التعبير والرأى مثل إعلان حقوق الإنسان 1789 كأحد منجزات الثورة الفرنسية الذى يعتبر التداول الحر للافكار والاراء والأخبار هو أحد الحقوق الأساسية للإنسان، وكذلك الإعلان العالمى لحقوق الانسان للأمم المتحده 1948 الذى أكد على كفالة وتأكيد حرية الصحافة.. الخ
ومنذ النقاش البرلمانى الشهير فى أواخر القرن الثامن عشر، عندما وصف المفكر والسياسى البريطانى إدموند بيرك الصحافة بالسلطة الرابعة قائلا فى البرلمان: توجد 3 سلطات فى البرلمان البريطانى (الأعيان الروحانيون، الأعيان الدنيويون، والعوام)، ثم نظر إلى قسم الصحفيين وقال: «هناك ثلاث سلطات فى البرلمان، لكن فى معرض المراسلين يجلسون هنا، توجد سلطة رابعة أهم بكثير من كل هؤلاء»، أى أن الصحافة سلطة شعبية لا يستطيع أحد الاقتراب منها
تعالوا نسأل على أرض الواقع الغربي: ما عدد الصحفيين الأمريكان أو الأوربيين الذين قتلوا وهم يمارسون مهنتهم داخل هذا السياج الغربي، وكأن حرية الصحافة ونقل الحقيقة عندنا له معان ومدلولات أخرى غير التى عندهم
ماذا يحدث لو قتل صحفى غربى وهو ينقل الأحداث حتى خارج أوروبا ـ ولن أقول داخلها، تقوم الدنيا ولا تقعد
لكن فى العالم الثالث، الأمر مختلف،ومايحدث فى فلسطين المحتلة وغزة على وجه الخصوص أمر آخر، وكأن حرية الصحافة والأعلام عندنا تختلف عن الموجودة عندهم، وكأن حق المواطن العربى فى الحصول على الأخبار من أرض الواقع أمر مختلف..
خارج الغرب الكل يغض الطرف إلا إذا كان الهدف هو محاولة زعزعة الاستقرار للأنظمة الحاكمة فيرفعون شعار حرية الصحافة..لا أحد يتكلم عن قتل الصحفيين والاعلاميين وتحطيم الكاميرات فى غزه منذ 7 اكتوبر2023، وارتفاع عدد الشهداء الصحفيين إلى أكثر من 245 شهيدا.
التناقض الغريب غير المبرر من الغرب لا يفسر إلا أنه مساعدة للكيان الصهيونى على قتل الحقيقة، وعدم كشف المستور، من خلال التهديدات المستمرة التى تصل للقتل لكل اعلامى وصحفى يقترب من فلسطين المحتلة..
نعم تحولت غزة الى مقبرة للصحافة، شاهد على قبر الحرية،دليل حى على الشيزوفرنيا الغربية، باعتبار حريتهم غير حريتنا، حقوقهم فى التعبير عن الرأى غير حقوقنا، باختصار حريتهم غير حريتنا.
أصبح الصحفيون فى غزة أهدافًا مباشرة، والأرقام لا تكذب، فمع قتل وتشريد الملايين و مع كل قصف، يسقط صحفيون لأنهم يحاولون توثيق ما يحدث للعالم، يعنى يحاولون قتل الحقيقة قبل ان تولد، والمبكى أن يصف النتنياهو قاتل الصحفيين بأن ما حدث مأساوي، طبعا حقيقة الأمر انه مأساوى لأنه لم يقتل كل الصحفيين !!
لا أحد يتحدث عن حق هؤلاء الصحفيين والاعلاميين، فهم كالمواطنين العزل ليسوا مجرد أرقام، المواطنون يتشبثون بوطنهم، والصحفيون يتشبثون بالحقيقة، يملكون فقط أقلامهم وكاميراتهم والعدو يواجههم بالدبابة والصواريخ..
نعم الصمت الدولى جريمة كبرى مركبة متعددة ومستمرة، فبينما يدين الانتهاكات فى أماكن معينة، يتم تجاهل أو تبرير استهداف الصحفيين فى مناطق أخري، الكيل بمكيالين يشجع على استمرار هذه الجرائم، بل ويجعل القتلة يشعرون بأنهم فوق القانون..كل ذلك والغرب أذن من طين واخرى من عجين !!
أيها الغرب المتمدين المتحضر، قتل الصحفى فى غزة ليس مجرد جريمة فردية، بل محاولة لإسكات وقتل الحقيقة، مع قتل الصحفي، يغتال معه صوت، وتختفى قصة، وتُحرم الإنسانية للأبد من معرفة ما يحدث على الأرض.. هذا هو السلاح الجديد الفعال فى الحروب الحديثة، استهداف الإعلاميين هدفه منع وصول الرواية الأخرى التى لا تتفق مع سرد المحتل الغاصب..قتل الصحفيين هدفه الرؤية من خلال عيون الغرب بعد مرور ما ينقله الصحفيون الغربيون عبر فلاتر أجهزة المخابرات الغربية ليعرف العالم ما يريده الغرب فى المكسيك وأوكرانيا والسودان وأفغانستان..
لا أحد يدرك ان خلف كل صحفى قُتل قصة إنسانية… هم ليسوا مجرد أرقام يضيفونها فى الإحصائيات.. هم أزواج وزوجات، آباء وأمهات، أبناء وبنات..أشخاص لديهم آمال وأحلام وطموحات… كانوا يسعون لتوفير حياة كريمة لعائلاتهم، بالمخاطرة بأعز ما يملكون، بحياتهم وأحلامهم من أجل نقل الحقيقة…، لا يتوقف قتل الصحفى عند فقدان مصدر للحقيقة، بل يمتد ليشمل فقدان إنسان عزيز لدى عائلته ومجتمعه… هذه الخسارة تتجاوز المهنية لتصبح مأساة إنسانية عميقة
والسؤال: هل أصبحت الصحافة غير مطلوبة فى فلسطين والمناطق التى يراها الغرب بعيونه ولا يسمح لأحد أن يراها بغير عيونه.
نعم أصبحت مهنة الصحافة مرادفة للمخاطر، لكن الخطر الأكبر ان تأخذ الكيانات المحتلة والغاصبة الحماية الغربية ستارا ليس لقتل الحقيقة فحسب بل لتدمير الذاكرة الجمعية وتزييف التاريخ للأجيال القادمة
وأعتقد ان أحد أخطر جوانب هذه القضية هو ظاهرة الإفلات من العقاب، قتلة الصحفيين يدركون أنهم فى مأمن من العقاب، والإفلات منه يشجع على تكرار الجريمة، ويخلق بيئة من الخوف والرعب تجعل الصحفيين مترددين فى القيام بعملهم، عدم وجود عدالة يرسل رسالة واضحة للجميع: حياة الصحفى رخيصة، وحرية التعبير ليست لها قيمة والشفافية والمساءلة لا مكان لهما… فهل يتحرك المجتمع الدولى لإنشاء آليات قانونية تضمن محاكمة الجناة، بغض النظر عن هويتهم أو مكان وزمن ارتكاب الجريمة؟
سوف يأتى يوم ويحاسب الغرب على صمته وغض الطرف عن قتل الصحفيين الذى هو قتل للإنسانية.. لكن الذى لا يدركونه جميعا أن الشعوب هى المنتصرة فى نهاية المطاف، والحقيقة هى المنتصرة دائمًا مهما طال الزمن وحتى لو كان ثمنها باهظا!!