المشهد التشكيلى يفتقد الظواهر الفنية الجديدة.. ونحتاج إحساسًا مغايرًا بالمستقبل
جائزة «نوار» هدفها اكتشاف الموهوبين.. وإعداد جيل جديد يعرف قيمة فن الرسم
فنان يمتلك رصيداً من العطاء الثرى والمتنوع أنجزه على مدار تجربته الاستثنائية التى جعلت منه أحد رموز الإبداع المصرى فى العصر الحديث وسطرت اسمه فى أكبر الموسوعات الفنية المحلية والدولية .. د.أحمد نوار عضو المجلس الأعلى للثقافة مارس موهبته المتفردة فى الجرافيك والرسم والتصوير بل وحتى النحت وتميز فى جميعها بتلك اللغة البصرية فى الأسلوب والتقنية والمفردات وروعة المزج والتناغم بين العضوى والهندسي.
نوار نموذج يحتذى فى كل الوظائف والمهام التى تولاها أكاديميا وإداريا.. وأبرز محطاته فى هذا السياق هى رئاسته للمركز القومى للفنون التشكيلية الذى تحول على يديه إلى قطاع متخصص فى فترة تعد استثناء على مناحى الانجاز والتطوير والتأثير فى الحركة التشكيلية التى مازالت وساهمت فى اكتشاف مواهب مصرية أصبحت اليوم نجوماً كبار.. نوار فى حواره لـ«الجمهورية» أكد أن هناك علاقة قوية تربط دور الإبداع فى تكوين شخصية أصيلة لدى الأفراد، لذلك تعتبر مبادرة الرئيس السيسى حول الوعى تاريخية تساهم فى تشكيل فكر المصريين، مؤكدا أن المشهد التشكيلى الحالى يفتقد الظواهر الفنية الجديدة ولابد من وجود أفكار ومعالجات جديدة وإحساس مغاير بالمستقبل .. «الجمهورية» التقت به وكان هذا الحوار.
> من وجهة نظرك..ما علاقة الإبداع وبناء شخصية الفرد؟
>> بالطبع هناك علاقة قوية تربط دور الإبداع فى تكوين شخصية أصيلة لدى الأفراد، لذلك تعتبر مبادرة الرئيس السيسى الداعمة لإعادة تمكين الوعى مبادرة تاريخية تسهم فى تشكيل فكر المصريين، فعندما كنت طالبا فى الستينيات انتميت إلى مجموعة شبابية استكشافية قامت برحلات عبر مصر قطعوا آلاف الكيلومترات لاستكشاف العادات والتقاليد المختلفة وهذه الرحلات كانت تضمن تفاعلا مباشرا مع المجتمعات المحلية وتجربة حية لاتقارن بدراسة الكتب، وهناك بعض المناطق نائية قمت بزيارتها مثل سيوة حيث كانت ظروف الحياة بسيطة، ولكن هناك أهمية التجربة الشخصية والمعايشة الفعلية للأماكن والناس؛ لأن المعرفة المكتسبة من خلال الخبرة الحقيقية تفوق تلك التى يتم الحصول عليها من القراءة النظرية، وتلك الرحلات كانت بمثابة تجارب شخصية أسهمت فى خلق الإبداع لدى الشباب مما جعلهم ينطلقون فى مجالات الابتكار، وهذا يستلزم منا العمل على إعادة الوعى وفق منهجية تتفق وتحولات العصر الحاضر.
> كيف ترى للمشهد التشكيلى فى الوقت الراهن؟
>> يفتقد المشهد التشكيلى إلى الظواهر الفنية الجديدة.. والظواهر هنا ليست بالضرورة أن تكون تنتقل إلى الجانب الشخصى اختراع أو ابتكار جديد، ولكن على الأقل لا بد من وجود أفكار ومعالجات جديدة.. وإحساس مغاير بالمستقبل لذلك أرى أن الحركة التشكيلية فى حالة اجترار لاتجاهات سابقة لا تضيف جديدا.
> نتحدث عن تطوير الخطاب الثقافى فى المجتمع فكيف يمكن أن يتم ذلك؟
> > تجديد الخطاب الثقافى مصطلح يشير إلى إعادة النظر فى المفاهيم والقيم والرؤى الثقافية السائدة فى مجتمع ما بهدف تطويرها أو إصلاحها بما يتناسب مع متغيرات العصر الحديث دون التخلى عن الهوية أو الثوابت الأساسية، وهذا المفهوم يرتبط ارتباطا وثيقا بتحديث الفكر وتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، فالخطاب الثقافى مجموعة أفكار ومفاهيم ورؤى التى تنتجها وتروج لها النخب الثقافية وتنعكس فى الفنون والأدب والتعليم والإعلام والممارسات الاجتماعية، كما أنه يشمل النظرة إلى التراث والدين، مفاهيم الهوية والانتماء، القيم الاجتماعية السائدة والتفاعل مع الحداثة والتكنولوجيا، وفى ظل التطورات التكنولوجية والعولمة والانفتاح أصبح من الضرورى تطوير الخطاب الثقافى ليستجيب للتحديات الجديدة ومواكبة التحولات العالمية والتصدى لخطابات التعصب والجمود والمساعدة على نشر ثقافة تقبل الاختلاف وتعدد الآراء، لذلك ثقافة أى أمة هى حصيلة تراثها الفكرى الذى يميزها عن غيرها من الأمم وحتى تجمع الأمة بين الأصالة التى تحفظ بها صبغتها والمعاصرة التى تواكب بها التقدم، لابد لها من تجديد الخطاب الثقافى الذى من مقتضياته أن ينعم المبدع بقدر من الحرية المسئولة التى تبنى ولا تهدم وأن يحرص المجتمع على القراءة ويرتقى بالتعليم وأن يتحلى القارئ بذائقة معرفية تميز بين الغث والسمين وأن يستفيد مثقفونا من الآخر مع ضرورة الحفاظ على هويتنا.
> إذن.. فى وجهة نظرك.. ما أبرز ملامح الخطاب الثقافى الجديد؟
>> يتم تجديد الخطاب الثقافى من خلال الانفتاح على الآخر وقبول الثقافات المختلفة دون فقدان الهوية من خلال قراءة تراثنا قراءة عقلانية والاهتمام بالعلم والتفكير النقدى البناء وتعزيز الثقافة الرقمية من خلال التفاعل مع أدوات العصر، فالوعى الاجتماعى ضرورة ملحة للنهوض بثقافة أى مجتمع بالإضافة إلى مجموع الأفكار والنظريات والآراء والمشاعر الاجتماعية والعادات والتقاليد التى توجد لدى الناس وتعكس واقعهم الموضوعي، والثقافة تتسع لتشمل منظومة القيم والأخلاقيات والسلوكيات والمفاهيم فهى لا تعنى فقط بمجموعة العروض الفنية والمسرحية وإقامة الورش ومعارض الكتب رغم أهميتها، وإنما المشاركة الفعالة من وإلى المواطن لتحسين مستوى الإدراك العقلى وبالتالى تعتبر الثقافة أمناً قومياً مصرياً وهى السبيل لتحقيق الدولة المدنية المصرية، فالفراغ الثقافى والفكرى هو وسيلة لاختراق العقول والهيمنة عليها والمجتمعات لا يمكن أن تبقى بمنأى عن الفنون لضرورتها فى الحياة وتأثيرها على سلوك الأفراد والشخصيات؛ لأن الجميع داخل المنظومة الأعم والأشمل متمثلة فى روح الدولة كمواطنين والتى لا يمكن أن تتقدم بدون مبدعيها فى المجالات الفنية المختلفة، أيضا العلاقة بين الفن والمجتمع علاقة شائكة منذ القدم وستظل لشموليتها واتساع حدودها أللا نهائية من وجهات نظر وفلسفات متباينة، فكان ينبغى السعى لمعرفة ملامح الآفاق المستقبلية للفنون والمجتمع فى غضون المرحلة الراهنة وفى ظل الاحتياج الحقيقى لتجديد الخطاب الثقافى وآليات تجديده بما يتوافق مع مستجدات العصر فى ظل التحديات والتهديدات التى تواجه المجتمع إضافة إلى أن دور الثقافة هو صناعة الوعى وهو ما لا يجب الاستهانة به أو التقليل منه، لأن المجتمعات لا تتحرك إلى الأمام إلا مصحوبة بوعى مستقبلى يحلم للغد ويسعى لتنفيذ ذلك ولزاما أن يكون ذلك محاطا بالثقافة.
> ولدت بإحدى قرى الغريبة.. والآن تقتنى المتاحف العالمية أعمالك الفنية.. كيف تصف طفولتك فى القرية؟
>> ولدت فى قرية صغيرة تدعى يوسف بك شريف تتبع بلدة شية بمحافظة الغربية لعائلة كبيرة ميسورة الحال وبعدها التحقت بكتاب الشيخ على لحفظ القرآن وتعلم الكتابة ثم التحقت بمدرسة «شية» وكنت متفوقا فى مادة الرسم، وشجعنى أخى الأكبر المرحوم عادل نوار على مواصلة طريقي، علما بأن الأنشطة الفنية والأدبية فى تلك الفترة كانت على قدر عال من التميز بسبب رعاية الدولة للإبداع.
> تخرجت عام 1967 وفى العام التالى حصلت على أول جائزة دولية فى الرسم فى «بينالى إيبيثا الدولي» بإسبانيا.. كيف تصف تلك اللحظة؟
>> خلال تلك الفترة رسمت لوحات عدة على الخشب الحبيبى مثل لوحة «استعداد وترقب» التى حصلت على المركز الأول فى «بينالى إيبيثا الدولي» وجائزة مالية، إضافة إلى منحة دراسية كاملة مدة أربع سنوات مقدمة من الحكومة الإسبانية، لكنى لم أستطع السفر فى ذلك الوقت بسبب انضمامى إلى الجيش المصري، حيث صرت قناصا وما أزال أفخر بقنص عدد من جنود العدو ولا يزال أثر هذه الحرب حاضرا فى أفكارى ومسيرتي.. وكانت تلك بداية انغماسى فى القضايا الإنسانية؛ لذلك ساهمت قدر المستطاع فى التعبير عن الآلام الإنسانية والحقوق المفقودة على مستوى العالم، وفى مقدمة هذه القضايا فلسطين التى استحوذت على عدد كبير من أعمالى الفنية حيث رسمت ما يقرب من 70 لوحة عنها.
> ما التحديات التى واجهتك خلال مسيرتك الإبداعية؟
>> واجهت شتى التحديات بإرادة الفنان وعزيمته.. وهكذا استطعت أن أكون رحالا داخل مصر وخارجها، وبين عامى 1965 و1966 تجولت فى قبرص ولبنان وسوريا والأردن والعراق والكويت والقدس الشرقية، وفى فترة الشباب كان التحدى الكبير التوفيق بين الفن وأداء الخدمة فى القوات المسلحة أثناء حرب الاستنزاف، كذلك واجهت تحديا بين العمل الفنى وكونى مسئولا عن قطاع الفنون التشكيلية وقطاع المتاحف الأثرية وقطاع إنقاذ آثار النوبة وغيرها من المهام الوظيفية.
> كيف تسهم جائزة «نوار» فى اكتشاف المواهب فى كليات الفنون الجميلة فى مصر؟
>> تهدف جائزة نوار إلى تأهيل وإعداد جيل يعرف أهمية فن الرسم الذى يعتبر أساس الإبداع؛ لذا أعتبر هذه الجائزة جزءا من العمل المتواصل منذ سنوات طويلة لنشر الفن وتسهيل وصول الشباب إليه..ومن هنا كان السعى منذ البداية إلى تأسيس كليات الفنون الجميلة والمتاحف وأفتخر بالدور الذى أديته فى هذا المجال.
> لماذا اشتهرت بلقب «الفنان المقاتل»؟
>> بعد ساعة واحدة من توجهى لمنطقة التجنيد بالإسكندرية للحصول على تصريح سفر إلى إسبانيا لاستكمال دراستى تم ضمى لصفوف الجيش حتى شاركت فى حرب الاستنزاف والتى توجت بالعبور عام 1973 والتى لم أشارك بها للأسف، حيث كنت قد سافرت إلى إسبانيا ولم أتمكن من العودة بسبب غلق المطارات لكننى استطعت تجسيد نصر أكتوبر فى 33 لوحة عَبَرَّتْ عن قسوة الحرب وويلاتها.
> بماذا تصف تجربة الرسم بالأحبار على الخشب؟
>> جذبنى ملمس الخشب المضغوط «الخشب الحبيبي» فى عام 1965 فبدأت أتعامل معه ببعض الأحبار حتى تمكنت من التعامل مع الخامة وكثرت أعمالى بهذه التقنية التى لاقت إعجابا كبيرا من النقاد ومحبى الفن.. ومن أشهر أعمالى بهذه التقنية لوحة «إرادة الإنسان» السد العالى التى نالت الجائزة الأولى بمعرض الطلائع عام 1966 ولوحة «استعداد وترقب» 1967 ونالت الجائزة الأولى العالمية عام 1968 بينالى إيبيثا الدولى بإسبانيا.
> مجموعة «إرادة وطن والعبور» ما هى رسالتها من وجهة نظرك؟
>> مجموعة «إرادة وطن والعبور» من وجهة نظرى من الأعمال التى تحمل قيمًا مختلفة، لكنى قضيت حياتى الفنية كلها مهموما بتحقيق العدل وعودة شعب فلسطين لأرضه وتناول القضايا الإنسانية فى أعمالي.
> هل مجموعة «البصمة» تحمل معنى أو رمزية معينة؟
>> مجموعة «البصمة» منذ عدة سنوات حين أصابت أصابع يدى مشاكل فى الحركة، كان لابد من إجراء جراحة لأصابع اليدين الثمانية..فقمت بطبع بصمات بيدى وتركتها تحت أمل الشفاء واستكمال البصمات بأسلوب الرسم.. والحمد لله الجراحات الثمانى نجحت واستكملت البصمات وأصبحت أعمالا فنية تحمل فى مضمونها الكثير من المشاعر.
> فى مرحلة وجوه الفيوم كانت مرحلة أشبه بالعودة للواقعية.. ما المثير لعمل هذه المجموعة؟
>> أثناء الإعداد لافتتاح قاعة «أفق 1» عام 1996 بمتحف محمود خليل، جاءتنى فكرة إعداد معرض لوجوه الفيوم الأصلية. فتم استعارة عشرين لوحة لوجوه الفيوم من المتحف المصرى بالتحرير وتم ترميمها وإعدادها للعرض.. وتم افتتاح المعرض فجذبتنى الأعمال ومكثت كل يوم أثناء دخولى حديقة المتحف للتوجه لمكتبى أمر على المعرض وأكتشف كل يوم العيون الواسعة لوجوه الفيوم وكأن الروح تكمن بداخلها، فبدأت أفكر فى رسم هذه الوجوه بالأبيض والأسود كإعادة صياغة مع إضافة عالمى الخاص والحقيقة أنها نالت الإعجاب داخل مصر وخارجها..وعرضت بمتحف البرديات بفيينا عاصمة النمسا بالإضافة لسبعة وجوه من نفس المتحف وظل المعرض مفتوحا أمام الجمهور فترة طويلة.
> كيف تصف معرض قصر عائشة فهمى الذى احتضن أهم أعمالك خلال نصف قرن؟
>> أتاح «قصر عائشة فهمى الأثري» بالقاهرة رحلة بصرية لزواره حيث تم عرض نحو مائتى عمل من أعمالى تبرز مسيرتى فى دروب الفن التشكيلى منذ ستينات القرن الماضى إلى الآن وألقى الضوء على مشروعى الذى تخطى خمسة عقود تجربة عرض مهمة وخصوصا تسليط الضوء على فنون الرسم التى لها مذاق خاص، وبرزت فى المعرض أعمال متفرقة فى مسيرتى بداية من المرحلة المبكرة التى سبقت الدراسة الأكاديمية فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وأبرزها مجموعة لوحات تحمل اسم «قريتي» التى ظهر فيها تأثرى المبكر بالبيئة المحيطة ومفرداتها الفطرية، ومن أبرز أعمال المعرض لوحة «يوم الحساب» وهى لوحة استخدمت فيها الأقلام الرصاص واستلهمتها من القصص الدينية وروائع الأدب العربى والأدب العالمي، وهى اللوحة التى كانت تمثل مشروع التخرج التى رسمتها فى فترة الستينات على مساحة واسعة تبلغ ثلاثين مترا، وأتاح المعرض تأمل التراوح الواسع فى استخدام نوار تقنيات الرسم والألوان وكذلك الأبيض والأسود الذى يمثل خصوصية فى مشروعه واستخدام الأقلام الرصاص والأحبار.
> خلال مسيرتك العملية قدمت مساهمات قيمة فى إنشاء متاحف فنية فى مصر ودول عربية مثل التصميم الداخلى لمتحف النوبة بأسوان..ما الذى يحفزك لممارسة هذا الدور؟
>> تحفزنى الرغبة فى إعطاء مساحة ثقافية وفنية من خبرتى فى مجال المتاحف؛ لأن المتحف مؤسسة كبرى جامعة للثقافة والفنون يعتمد مشروع إنشاء متحف بالضرورة على الإبداع لتقديم حيز جذاب للمتلقي، كما أن المتحف مؤسسة حية حافظة للذاكرة والتاريخ وغنية بالمحتويات والوسائط ووظيفته قد تستمر إلى أجيال وأجيال، فالحافز الأكبر هو السعى الى بناء وجدان الأجيال الجديدة وعقولها وتمكينها من الإضافة والابتكار فى شتى المجالات.
> نرى الجانب التصويرى للحظات تاريخية عامة حاضرا فى لوحاتك.. فهل هناك احتمالات درامية للفن التشكيلي؟
>> فن الرسم هو الأساس فى بناء أى عمل فنى سواء أكان تصويرا أم نحتا أم طباعة أم عمارة.. هو الأساس الإنشائى الذى تبنى عليه عناصر العمل الفنى وجمالياته ومن دونه يفقد هذا البناء التشكيلى بنيته فينهار ولا يحقق شيئا، فالعنصر الدرامى مكون مهم فى العمل التشكيلى فاللوحة قد تروى قصة وتمنحها عمقا مختلفا عما تحققه الفنون الأخري.