مازالت غزة تنزف تحت قصف إسرائيلى متواصل وحصار خانق بلغ حد المجاعة، وفق تقارير دولية تؤكد أن ما يجرى هناك هو كارثة إنسانية من صنع البشر، وبينما تدفع حكومة بنيامين نتنياهو باتجاه توسيع العدوان وإعادة احتلال غزة، فإن الداخل الإسرائيلى نفسه بدأ يشهد حالة غير مسبوقة من التمرد الشعبى والعسكرى على سياسات الحرب، فى مشهد يعكس عمق الأزمة الأخلاقية والسياسية التى تعصف بإسرائيل.
فى تل أبيب، خرج آلاف الإسرائيليين فى مظاهرات حاشدة بساحة هبيما مطالبين بوقف الحرب، رافعين صور أطفال غزة الذين يقتلون جوعاً وقصفاً، حتى داخل جيش الاحتلال، ارتفعت موجة رفض الخدمة العسكرية سواء عبر الحركات العلنية مثل مسرفوت زو من خلال «الرافضين الرماديين» الذين يفضلون العصيان الصامت، استطلاعات الرأى الأخيرة فى هآرتس كشف أن ثلث الإسرائيليين تقريباً يرون أن رفض الخدمة بات ضرورة لإنقاذ الرهائن ووقف المجازر هذا الرفض يضرب قلب خطاب نتنياهو الذى يحاول تصوير الحرب كخيار وجودي، بينما يرى معارضوه أنها مجرد وسيلة لتمديد بقائه فى السلطة.
فى المقابل، لا يمكن إغفال الموقف المصرى الثابت، الذى تحرك منذ اللحظة الأولى للعدوان وفق ثلاثة ثوابت واضحة: رفض التهجير القسرى للفلسطينيين، تكثيف الجهود لإدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، والدعوة لوقف شامل لإطلاق النار يفتح الباب أمام حل سياسى عادل القاهرة فتحت قنواتها الدبلوماسية على مصراعيها، فاستضافت جولات تفاوضية مع القوى الفلسطينية والوسطاء الدوليين، وأكدت أنها لن تسمح بتحويل سيناء أو غيرها إلى «ممر بديل» للفلسطنيين، بل إن الحل الوحيد يمكن فى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
إن ما يفعله نتنياهو لا يقتصر على غزة وحدها فالاستيطان يتوسع فى الضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة، والمصادرات تبتلع الأرض الفلسطينية، والاعتداءات اليومية للمستوطنين تتم تحت حماية الجيش فى الأشهر الأخيرة وحدها، صادرت إسرائيل مساحات واسعة فى الأغوار، وشرعت فى تنفيذ مشروع «E1» الذى يقسم الضفة ويقضى على حلم الدولة الفلسطينية المتصلة جغرافيا إنها سياسة ممنهجة لقتل فكرة السلام من جذورها.
ومع ذلك، مازال نتنياهو يحاول خداع العالم، مستنداً إلى صمت بعض العواصم الغربية أو إلى بيانات خجولة تتحدث عن «ضبط النفس» لكن الواقع على الأرض يفضح هذه المسرحية: مجاعة، قصف للمستشفيات، هدم للمنازل، وتهجير صامت للفلسطينيين.
إن مصر، ومعها دول عربية أخري، تتحرك على أكثر من خط لإنقاذ ما يمكن انقاذه إدخال المساعدات، الضغط لوقف إطلاق النار، والتأكيد أن السلام الحقيقى لا يمكن أن يقوم إلا على العدالة ورفع الاحتلال لكن بقاء نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة فى السلطة يعنى أن دائرة الدم لن تتوقف، وأن المأساة الإنسانية ستتعمق.
لقد آن الآوان للمجتمع الدولى أن يتجاوز ازدواجية المعايير، وأن يسمع الصوت القادم من القاهرة ومن شوارع تل أبيب على حد سواء: لا للحرب .. لا للتجويع .. لا للإبادة .. فالسلام لم يعد مجرد خيار، بل أصبح واجبا اخلاقيا وإنسانيا يفرض نفسه قبل أن تبتلع النار ما تبقى من أمل فى هذه المنطقة.