تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة تهدد قيم المجتمع وتستهدف وعي الشباب والنشء، بما تقدمه لهم من محتوى هابط ومسيء، وأصبحت كثير من هذه المنصات، وعلى رأسها “تيك توك” أشبه بـ “هاوية إلكترونية” يُرفع فيها كل ما هو مبتذل، ويُشجَّع ما هو مخالف للذوق، ويُصفَّق لمن يزداد انحطاطًا أمام الكاميرا، فنال الشهرة والتأثير أشخاص تجرئوا على قيم المجتمع ومبادئه الأخلاقية والسلوكية الراسخة، في تهديد واضح ومباشر لأمن المجتمع واستقراره.
إن ما رأيناه جميعا على منصة التيك توك وغيرها، من محتوى يتنافى مع كل المعايير الأخلاقية والمجتمعية والدينية، ليس مجرد ظاهرة ترفيهية مشوشة، بل انعكاس مباشر لفراغٍ روحي وفكري بدأ يزحف نحو المدارس والبيوت والنفوس، منذ دخلت هذه الوسائل كل بيت، وشقت طريقها نحو عقول أبنائنا، فأثرت عليهم وغيرت سلوكياتهم، وزرعت داخلهم أخلاقيات ومبادئ مستهجنة وغريبة على مجتمعاتنا، وأصبح معيار الشهرة الجرأة على الخطأ، لا الجرأة على الفكرة، وسقط الكثيرون في مستنقع التفاهة على شاشات الهواتف.
لقد حذرنا الإسلام من الانسياق وراء التفاهة والإسفاف لما في ذلك من انحدار الكمال إلى النقص، حيث وصف الله تعالى سلوك اللغو والتفاهة في القرآن بقوله:”وإذا مروا باللغو مروا كرامًا”، وهي ليست آية تزهد في الترفيه، لكنها تضع لنا ميزانًا للأشياء، بما تؤكد عليه من أن الأسوياء من الناس إذا مروا بالكلام الباطل أو اللهو أو التفاهة والإسفاف، فإنهم يتجاوزونه بكرامة وعزة نفس، ولا يشاركون فيه أو يخوضون فيه: لذا، فإن الترفيه الذي لا يهدم قيمة، لا خوف منه، أما الذي يُميت الضمير ويمسخ الذوق العام، على غرار ما نراه على منصات التواصل الاجتماعي على اختلافها، فهو داء يحتاج إلى مناعة قبل أن يحتاج إلى علاج.
ولهذا كله، حسنا فعلت الدولة المصرية بكل أجهزتها المعنية، حين تحركت بجدية لحماية المجتمع من هذه الفوضى والإفساد المتعمد له، وقد أثلج صدورنا خلال الفترة الماضية ما رأيناه من قوانين تُجرّم هذه النوعيات المخلة بالحياء العام وتُعاقب القائمين عليها، بجانب ما رأيناه من تحركات ملموسة على الأرض من الأجهزة المعنية بوزارة الداخلية، لضبط كل من قدم محتوى مخالف للذوق أو منافي لقيم المجتمع وأخلاقياته، وهذا موقف يُحسب للدولة المصرية ويؤكد إدراكها لمسؤولياتها بحماية المجتمع والأجيال الناشئة، كما أنه ليس قيدًا للحريات بقدر ما هو إنقاذٌ للقيم من الانحدار، فالحرية ليست أن أجرّح الحياء، أو أقتل الوقت، أو أستغل جهل المتابعين وأفسد عليهم ذوقهم وحياتهم، وإنما أن أبني ضوءًا ولو من كلمة قصيرة.
الوعي لا يُفرض بالقانون وحده، ومسؤولية ضبط “بوصلة الوعي” تبدأ من داخل النفس، حين يعرف المرء أنه مؤتمن على ما ينشر وما يستهلك، وأنه حين يشارك في نشر التفاهة فإنه يشارك في قتل الذوق العام بصمت، وإفساد الوعي الجمعي المجتمعي بكل ما فيه من أخلاقيات وقيم ومبادئ، وبما يمكن يتأتى معه تهديد حتمي وخطير لأمن المجتمع واستقراره.
إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس فقط المحتوى السيئ، بل حالة “التطبيع معه”؛ بمعنى أن يراه الناس طبيعيًا فقط لأنه أصبح شائعًا، وأن يصبح انحدار الكلمة والصورة جزءًا من يوميات أبنائنا دون أن نهتز لذلك، بما يستوجب التعاون بين الأزهر الشريف ووزارت التعليم والتعليم العالي والثقافة والاتصالات، لصناعة نماذج قصيرة تنشر قيم الجمال والحياء والإبداع وتشجع الموهوبين من المؤثرين أصحاب المحتوى الهادف، وإبرازهم إعلاميا، وتخصيص جوائز أو منح للشباب الذين يستغلون المنصات للتعليم أو التوعية أو نشر ثقافة إيجابية، وإدراج ثقافة الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا ضمن مناهج التعليم، فإعادة ضبط «بوصلة الوعي» مشروع حياة، لأن الأمم لا تسقط فجأة، بل تبدأ بالسقوط في داخلها حين تسمح للتفاهة أن تتكلم باسمها، وللجهل أن يظهر وجهه دون خجل، وللمحتوى الهابط أن يصبح هو العنوان العريض.
والسؤال: هل نكتفي بالغضب والرفض الداخلي؟ أم نبدأ نحن بأنفسنا في صناعة البديل.