في جَوْهَرِ صِرَاعِ النَّفْسِ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَالْحَسَدِ يا صاحبي، هلَّا سَأَلْتَ نفسَكَ: لِمَاذَا تُقيمُ في محرابِ الحسرةِ؟ ولماذا تُوقِدُ في قلبِكَ نارَ المقارنةِ؟
تَسمعُ صَوتَ الشَّابِّ الفقيرِ المتفوقِ وهو يقولُ: “ألَيْسَ منَ الظُّلْمِ أنْ أُبْدِعَ في دراستي، وأُفنيَ لياليَّ في التحصيلِ، ثمَّ أَرَى مَنْ هُوَ دوني في الذَّكاءِ والاجتهادِ يدخلُ ما لمْ أستطِعْ أنْ أَدخُلَهُ لِمُجَرَّدِ أنَّ في جيبِهِ ما ليسَ في جيبي؟”.
ويَرُدُّ عليهِ لسانُ حالِ الغنيِّ القادرِ: “أوَليسَ منَ الظلمِ أنْ أُعطيَ مئاتِ الآلافِ من مالي الذي أنعمَ اللهُ بهِ عليَّ لكي أضمنَ لابني مكانًا، دخلته أنت مجانًا، أو بأدقَّ من هذا على نفقةِ المجتمعِ الذي أنا واحدٌ منه، أَدفعُ الضرائبَ لِتَتعَلَّمَ أنتَ مجانًا، ثم يتنكرُ هذا المتفوقُ لهذه الحقيقةِ ثم ينظرُ إليَّ وكأنَّه يرى في مالي نقمةً عليه لأنه يريدُ التميزَ المطلقَ في كلِّ شيءٍ وأنْ تقتصرَ نعمُ اللهِ عليهِ فقط؟ ألا يَرَى في تفوقِهِ نِعمةً لم يُمكِّنِ اللهُ ابني منها؟
أَيْنَ الْحَقُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ؟
إنَّ هذهِ الأسئلةَ السَّاخنةَ تُثيرُ في النَّفسِ صِراعًا أزليًّا. كلُّ طرفٍ يرى أنَّه مظلومٌ، وأنَّ الآخرَ قد حُرِمَ ممَّا أعطاهُ اللهُ إياه.
الفقيرُ المتفوقُ يرى أنَّ المالَ سَطَا على حقِّهِ في التفوُّقِ، والغنيُّ القادرُ يرى أنَّ تفوقَ الفقيرِ قد أصبحَ سَبَبًا للحسدِ والضغينةِ عليه.
هنا يكمنُ جوهرُ المشكلةِ الحقيقيةِ، أيها الفاضلُ، في هذا الداءِ الذي يُسمَّى “التميّز المطلق فإنَّ النفوسَ قد جُبِلتْ على حبِّ التميزِ، ولكنها حينَ تطلبُه كامتلاكٍ حصريٍّ لنفسها، لا كفضلٍ يُسَبَّحُ اللهُ عليه، فإنها تقعُ في فخِّ المقارنةِ غيرِ المنصفةِ، فتُصبِحُ تَرى في كلِّ نعمةٍ عندَ الآخرِ انتقاصًا من نِعمتِها، إنَّها تُريدُ أنْ تَجمَعَ كُلَّ الخيرِ لنفسِها، وتُحرمَ غيرَها، وهذا محضُ الحسدِ.
هذهِ المقارنةُ تُورِثُ في المجتمعِ طبقاتٍ من الضغائنِ والاحتقارِ، فالفقيرُ المتفوقُ قد يحتقرُ الغنيَّ لِظنِّهِ أنَّه بلا كفاءةٍ، والغنيُّ قد ينظرُ إلى المتفوقِ كَمُجَرَّدِ حاسدٍ لا يرى إلا ما في يدِهِ، وهكذا تَتآكلُ أواصرُ المجتمعِ، وتزولُ منه الرحمةُ والتعاونُ.
الْحَلُّ فِي الذَّاتِ: الْبَحْثُ عَنِ الْكَنْزِ الْمَخْفِيِّ، إنَّ الحلَّ ليسَ في أنْ يُفقِرَ اللهُ الغنيَّ، ولا في أنْ يُسلبَ اللهُ المتفوقَ ذكاءَهُ، بل الحلُّ في أنْ يُدركَ كلُّ منهما أنَّ النِّعَمَ كالمطرِ، لا تنزلُ على أرضٍ واحدةٍ.
المتفوقِ أنْ يدركَ أنَّ تفوقَهُ هو نعمةٌ من الله، لا مجردُ حقٍّ مكتسبٍ، وأنَّه وُفِّقَ لها بفضلِ اللهِ أولًا، ثمَّ بجهدِهِ، ثمَّ بفضلِ المجتمعِ الذي ساهمَ الغنيُّ بمالِهِ في بنائِه، والغني عليهِ أنْ يتقبلَ أنَّ المالَ رزقٌ، والذكاءَ رزقٌ، وأنَّ التفاضلَ بينَ الناسِ سُنَّةُ اللهِ في خلقهِ، وعلى المتفوقِ أنْ يخرجَ من دائرةِ التميزِ الفرديِّ إلى دائرةِ التكاملِ المجتمعيِّ، فالمجتمعُ هو جسدٌ واحدٌ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ، وليكنْ همُّهُ كيفَ يُسخِّرُ اللهُ ذكاءَهُ في خدمةِ المجتمعِ الذي تلقَّى منه هذا العطاءَ، لا كيفَ يَحسُدُ من كانَ له فضلٌ في توفيرِ هذهِ الفرصةِ، ولينظر إلى نِعمةِ الذكاءِ والقدرةِ على التحصيلِ، وتفوقِه الذي لم يُشترَ بمالٍ، وليشكر اللهَ على هذهِ النِّعمةِ، ويجعلْها سَبَبًا لزيادةِ سعيكَ واجتهادِك.
لنجعلْ شعارَنا: “إنِّي لا أَنظُرُ إلَى مَا فِي يَدِ النَّاسِ، بَلْ أَنْظُرُ إلَى مَا فِي قَلْبِي وَعَقْلِي، فالأمرُ ليسَ فيمَا نملكُهُ من شهادةٍ أو مالٍ، بل فيمَا نقدِّمُهُ لِأنفسنا ومجتمعِكَ من خيرٍ وعملٍ صالحٍ، فهلْ بَعْدَ هذا تُريدُ أنْ تَحسُدَ غيرَكَ على نِعمَةٍ، واللهُ قد أَنعَمَ عليكَ بِنِعمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى؟
لا تخرجوا الله ونِعَمِهِ من المعادلة فيحل بكم الشقاء بدلا من السعادة، والسخط بدلا من الشكر.