فى ظل التقلبات الاقتصادية العالمية المتزايدة، والتغيرات المناخية التى تؤثر على الإنتاج الزراعي، والأزمات الجيوسياسية التى تعطل سلاسل الإمداد، لم يعد امتلاك احتياطى آمن من السلع الأساسية مجرد رفاهية، بل أصبح ضرورة قصوى وحتمية إستراتيجية لأى دولة تسعى لضمان أمنها الغذائى واستقرارها الاقتصادي. وبالنسبة لمصر، التى تعتمد بشكل كبير على استيراد العديد من السلع الغذائية الأساسية، يمثل بناء وتأمين الاحتياطى الآمن تحدياً كبيراً وجهداً متواصلاً، ولكنه فى الوقت نفسه حجر الزاوية فى استراتيجيتها لتحقيق الاكتفاء الذاتى النسبى وحماية المواطنين من تقلبات الأسواق العالمية. إن مفهوم الاحتياطى الآمن يتجاوز مجرد تخزين كميات كبيرة من السلع؛ فهو يشمل منظومة متكاملة من التخطيط، والتخزين، والإدارة اللوجستية، والتنويع فى مصادر الاستيراد، والعمل على زيادة الإنتاج المحلي. وتعد السلع الأساسية، مثل القمح، والزيت، والسكر، والأرز، واللحوم، من أهم مكونات الاحتياطى الاستراتيجي. ويعد القمح على وجه الخصوص سلعة استراتيجية، حيث يمثل الخبز الغذاء الأساسى لملايين المصريين. إن تأمين احتياطى كافٍ من القمح يضمن استمرار تدفق الدقيق إلى المخابز، وبالتالى استقرار أسعار الخبز المدعم، وهو ما يمثل خطاً أحمر فى سياسات الأمن الغذائى المصرية. وتعمل الحكومة المصرية على تحقيق هذا الهدف من خلال استراتيجية متعددة الأوجه: أولاً، زيادة الإنتاج المحلى من القمح عبر التوسع فى زراعة الأراضى الزراعية، وتطبيق تقنيات الرى الحديثة، وتوزيع بذور عالية الجودة على المزارعين، وتحفيزهم بأسعار شراء مجزية. وثانياً تنويع مصادر الاستيراد لتقليل الاعتماد على دولة أو جهة واحدة، حيث يتم استيراد القمح من دول مختلفة مثل روسيا وأوكرانيا ورومانيا وغيرها، مما يوفر مرونة أكبر فى التعامل مع الأزمات. وثالثاً الاستثمار فى إنشاء صوامع حديثة ذات سعات تخزينية ضخمة، حيث تمكنت مصر فى السنوات الأخيرة من بناء صوامع عملاقة فى مختلف المحافظات، مما رفع السعة التخزينية الإجمالية من بضعة أسابيع إلى شهور طويلة، وهو ما يضمن وجود مخزون استراتيجى آمن يغطى احتياجات البلاد لفترة كافية.
ولا يقتصر الاحتياطى الآمن على القمح وحده، بل يمتد ليشمل سلعاً أساسية أخرى مثل الزيوت النباتية والسكر. وتعد مصر من أكبر مستوردى الزيوت النباتية، وتعمل الدولة على تقليل هذه الفجوة عبر تشجيع زراعة المحاصيل الزيتية مثل دوار الشمس وفول الصويا، بالإضافة إلى تنويع مصادر الاستيراد من دول مختلفة. أما السكر فقد شهدت مصر تقدماً ملحوظاً فى تحقيق الاكتفاء الذاتى منه، حيث يتم الاعتماد بشكل أساسى على إنتاج قصب السكر وبنجر السكر، مع وجود احتياطى استراتيجى يتم استيراده عند الحاجة. هذه الجهود المتواصلة فى تأمين الاحتياطى من السلع الأساسية تهدف فى المقام الأول إلى حماية المستهلكين من الارتفاعات المفاجئة فى الأسعار، وضمان توفر السلع فى الأسواق بأسعار مناسبة، خاصةً للفئات الأكثر احتياجاً.
إن إدارة الاحتياطى الآمن تتطلب منظومة لوجستية وإدارية محكمة. ويجب أن تكون هناك شفافية كاملة فى عمليات التخزين، والمراقبة المستمرة لجودة السلع المخزنة، وتطبيق أفضل الممارسات فى إدارة المخازن والصوامع. وتلعب وزارة التموين والتجارة الداخلية دوراً محورياً فى هذه المنظومة، حيث تتولى مسئولية شراء السلع وتخزينها وتوزيعها على البطاقات التموينية ومنافذ البيع المختلفة. كما تلعب أجهزة الرقابة دوراً أساسياً فى التأكد من عدم وجود احتكارات أو ممارسات تجارية ضارة تؤثر على توافر السلع وأسعارها. بالإضافة إلى ذلك فإن التوسع فى شبكة منافذ البيع التابعة للدولة، مثل مجمعات الأهرام وجمعيتي، يساهم فى ضمان وصول السلع المدعمة إلى أكبر شريحة من المواطنين بأسعار معقولة.
إن التحديات التى تواجه مصر فى بناء الاحتياطى الآمن لا تزال قائمة، وتتطلب جهداً مستمراً. ومن أبرز هذه التحديات التغيرات المناخية التى تؤثر على إنتاج المحاصيل، وتقلبات أسعار صرف العملات الأجنبية التى تزيد من تكلفة الاستيراد، والأزمات الجيوسياسية التى قد تؤدى إلى توقف سلاسل الإمداد. ولمواجهة هذه التحديات يجب أن تستمر مصر فى سياساتها الاستباقية وأولها زيادة الاستثمار فى البحث العلمى الزراعى لتطوير سلالات من المحاصيل تتحمل الظروف المناخية القاسية وتستهلك كميات أقل من المياه. وثانيها تعزيز التعاون الاقتصادى مع الدول المنتجة للسلع الأساسية وتوقيع اتفاقيات طويلة الأجل تضمن تدفق الإمدادات بأسعار مستقرة. وثالثها تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فى مجالات الإنتاج الزراعى والحيوانى والصناعات الغذائية، لتقليل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك.
ويعتبر الاحتياطى الآمن من السلع الأساسية فى مصر ركيزة أساسية للأمن القومي، حيث يضمن استقرار المجتمع وحماية الفئات الأكثر ضعفاً، ويمنح الدولة مرونة أكبر فى مواجهة الأزمات العالمية. ولقد أثبتت التجربة أن الدول التى تمتلك مخزوناً استراتيجياً كافياً تكون أقل عرضة للصدمات الاقتصادية والاجتماعية. إن الجهود المبذولة فى مصر لبناء هذا الاحتياطي، من خلال تطوير البنية التحتية، وتنويع مصادر الإمداد، وزيادة الإنتاج المحلي، تعكس التزاماً حقيقياً بتحقيق الأمن الغذائي، وتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً لجميع المصريين.