يصعب تحديد بدايته، لكن من الواضح ان جائحة «كورونا» ساهمت بشكل كبير فى ظهوره، حين أصبح التباعد الاجتماعى قاعدة ثم تحول إلى عادة حتى بات عزلة واقعية، وربما بدأ حين تحولت «الموبايلات» من وسيلة للتواصل إلى ملجأ للهروب من ضغوطات الحياة، وللأسف التوقيت الذى نعيشه أصبح التعبير عن الألم يعتبر ضعفا والصمت دليلا على القوة، وفى الحقيقة أن «الوباء الصامت» كان موجوداً قبل ذلك تحت ثقافة تهمش المشاعر والخجل من الاعتراف بالضعف.
أعراضه بلا حرارة، ليس لها فحوصات طبية ولم تظهر كـ»الحمى أو السعال»، ولا توجد شكاوى واضحة منه، والوضوع يبدأ عاديا بالضحك والخروج ثم يتحول تدريجيا دون ملاحظة إلى شعور باللامبالاة تجاه الوقت والأشخاص، وقلة الكلام تظهر فى عدم الرغبة فى التحدث ولا الانصياع لأحد، وفقط «الموبايل» وحده هو من يعطى الاحساس بالذات والوجودية، لكن دلالاته وعلاماته تتمثل فى اضطرابات نفسية وعاطفية مختلفة وغريبة ومعاناة صامتة لا يفهمها أحد فى الغالب، تنتهى بالاكتئاب الحاد ثم الانتحار، هذه هى حالة هؤلاء لم يكونوا مرضى جسدياً ولم يبدوا عليهم الألم، لكنهم ينهارون من داخلهم دون ملاحظة نتيجة هذا الوباء الخفى.
ونجد أن العامل المشترك فى هذا الوباء يتجلى فى الانفصال عن الذات، حيث يتسلل غالباً إلى أولئك الذين فقدوا علاقتهم بأنفسهم، من يشعرون بالاغتراب حتى فى منازلهم، ويعيشون حياة ظاهرها طبيعى لكن باطنها منهك وضائع، وهذه الحالة يصفها الخبراء بـ «الاحتراق النفسى» أو «الانفصال العاطفى» أو اللفظ الأكثر انتشاراً هو «الاكتئاب المقنع» لكن مهما اختلفت المسميات النتيجة واحدة «انسان يعيش ولا يشعر يتحرك ولا ينجو».
رغم أن هذا الوباء يعد الأكثر فتكاً مما نظن إلا انه لم يطلق عليه اسم علمى حقيقى، ولا يملك خطة طبية واضحة، وبالتالى لا تذكره نشرات الأخبار ولا تحذر منه المستشفيات، وهذا لأن الحكومات تفضل التعامل مع الأمراض القابلة للقياس لا الحالات المزاجية المعقدة، بالإضافة إلى أن الحديث عن الصحة النفسية لا يجد إقبالاً إعلامياً بشكل عام، كما أنه يواجه جداراً من الصمت المجتمعى، كما تساهم منصات التواصل فى نشر السعادة الوقتية المزيفة وتدفع الناس إلى إخفاء آلامهم فى الحياة الافتراضية.
فى النهاية، هذه المقالات ليست دعوة للهلع والخوف المستقبلى، لكنها تحذيرات وتنبيهات واضحة، وإن كان «الوباء الصامت» لا يبكى نشرة الأخبار ولا يملأ أقسام الطوارئ، فهو داخل كل بيت ينهش الأشخاص تدريجياً ويدمر المجتمعات ببطء.