لم يعد المشهد غريبًا: شاب يسب بألفاظ نابية في الشارع، وآخر يعتدي علي المارة بسبب وبدون سبب، وبلطجي يرهب الآخرين بسيف أو سكين.. وجيران يتقاتلون.. ومخدرات تباع في الشوارع جهارا.. وعربات تسير عكس الطريق. هذه الصور المزعجة لم تكن يوما جزءا من تركيبتنا الاجتماعية، لكنها باتت اليوم مشهدا مألوفا يتكرر أمام أعيننا وعلي شاشات التواصل، نأسف ونحزن له ويهز وجداننا.
ما يحدث ليس مجرد انفلات سلوكي، بل هو تآكل صامت في جدار القيم والأخلاق، وتراجع مقلق في طبيعة التحضر والانضباط التي طالما عرف بها الإنسان المصري. فمن أين جاء هذا التحول؟ ومن سمح للغوغائية أن تتسلل إلي حياتنا وتصبح «عادية»؟ والغريب في الأمر أنني لم أعثر علي أي دراسة بحثت عن أبعاد هذه الظاهرة الدخيلة علي مجتمعنا.. لماذا انتشرت؟ وكيف تدهورت أخلاقيات وسلوكيات بعض الشباب؟ وما نوعية الشرائح المجتمعية والعمرية والتعليمية التي أصابها هذا الخلل الحضاري؟.. هذه الأمور لابد من التعرف عليها من أجل الوصول الي فهم كامل لأبعاد المشكلة والعوامل التي تتحكم في حدوثها وانتشارها.
نحن نري في الواقع وعلي الشاشات أن الشباب هم أكثر فئة مجتمعية أصابها هذا الخلل الأخلاقي، خاصة في المناطق العشوائية والمكتظة بالسكان، وغالبا ممن ينتمون إلي «دولة التوك توك» و«الميني باص» سيئتي السمعة.
العشوائيات بيئة خصبة لانتشار الانفلات الأخلاقي. هذه المناطق تنتج أجيالا لم تتلقَ الحد الأدني من مقومات التربية والانضباط، فتنمو فيها النزعات العدوانية والانفعالية كرد فعل طبيعي لبيئة قاسية.
والأسرة بالقطع هي اللبنة الأولي في بناء شخصية الإنسان وهي مثل التربة التي تتحكم في نمو النبات، وعندما تنهار القيم داخل البيت أو يغيب الدور التربوي الحقيقي للأب والأم، يتحول الأبناء إلي فرائس سهلة للانحراف. غياب القدوة، وسوء المعاملة، أو الإهمال العاطفي قد يكون وقودا لهذا الانفلات، خاصة إذا صاحبه غياب الحوار والتوجيه. أما التعليم فلقد انشغل بالتحصيل والحفظ، وأهمل غرس القيم والمهارات الحياتية وغابت التربية، وتراجعت الهيبة، وغاب المعلم القدوة، مما جعل المدارس غير مؤثرة خلقيا، وترك الشباب يبحثون عن هويتهم في أماكن غير آمنة أو وسط رفاق السوء.
الحل يبدأ بإعادة بناء الإنسان. لا بد من مشروع قومي لإحياء منظومة القيم. يجب إعادة الاعتبار للمدرسة كحاضنة أخلاقية قبل أن تكون مؤسسة تعليمية. وتستمر جهود الدولة المشكورة للتخلص من العشوائيات. وعلي الأسرة أن تتلقي الدعم والمساندة لتؤدي دورها التربوي. ولعلني أتساءل هنا.. ماذا حدث للمبادرة الرئاسية «بداية».. أعتقد أن هذا هو دورها المحوري.. ولابد من تفعيلها علي نطاق واسع.