فى التاســع عشــر من أغســطس من كل عام، يحيــى العــالم «اليوم العالمى للعمل الإنسانى»، مناسبة تستحضر فى وجدان البشرية قيم التضامن والإيثار، وتذكّر بما يجب أن يكون من التزام أخلاقى وقانونى تجاه حماية المدنيين فى مناطق النزاع والكوارث. غير أنّ هذا العام يأتى اليوم مثقلاً بجراح مفتوحة، إذ تظل غزة شاهدة على أعمق امتحان لهذه القيم، حيث يعيش أكثر من مليونى إنسان تحت وطأة حرب طاحنة، تآمرت فيها آلة الدمار على كل مقومات الحياة، من غذاء ودواء ومأوى، فتحوّلت الأرض إلى مسرح لمآسٍ إنسانية غير مسبوقة.
كان اليوم العالمى للعمل الإنسانى مناسبة لتكريم العاملين فى المجال الإنسانى، الذين يخاطرون بحياتهم فى سبيل إنقاذ الأرواح.. وعلى مدار الأشهر الماضية قدمت صورة دامية لكيف يمكن أن يُستهدف المدنيون والعاملون الإغاثيون معاً، فتُقصف المستشفيات، وتُمنع المساعدات، ويُقتل الجائعون فى طوابير الخبز والطحين. انقلبت المبادئ التى خطّتها المواثيق الدولية إلى صرخة عاجزة أمام مشهد المعاناة اليومية، لتتحول هذه المناسبة من احتفاء إلى دعوة ملحّة للإنقاذ.
وفى قلب هذه الأزمة، برز الدور المصرى كأحد أعمدة العمل الإنسانى الإقليمى، كضوء يلوح فى نفق مظلم يرشد العالم إلى مبادئ الإنسانية والإغاثة، إذ فتحت القاهرة معبر رفح لإدخال قوافل الإغاثة والأدوية والوقود، وتولت تنسيق عمليات إسعاف الجرحى وإجلاء الحالات الحرجة للعلاج فى المستشفيات المصرية. كما بادرت مصر، عبر مؤسساتها الرسمية والأهلية، إلى تسيير الاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء والدواء، وإقامة جسر إغاثى جوى وبحرى حمل على عاتقه عبء التخفيف من معاناة المحاصرين اخرها قافلة زاد العزة من مصر الى غزة والمستمرة على مدار ما يقرب من 20 يوما على التوالى. لقد شكلت هذه الجهود متنفساً للأمل ونموذجاً راقياً للعمل الإنسانى، ورسالة بأن العمل الإنسانى ليس مجرد شعارات أممية، بل التزام عمليّ تترجمه الإرادة السياسية والضمير الحى.
الفلسطينيون بين قصف المستشفيات.. تجويع المدنيين .. وشهداء المساعدات
العاملون فى المجال الإنسانى أهداف للاحتلال .. وإسرائيل تتجاهل القوانين الدولية

كتب – محمد زكى:
فى الحروب، ثمة «محرمات» وضعتها البشرية كحدٍّ أدنى من الضمير، ألا تُقصف مستشفيات، ألا يُحاصر غذاء وماء، وألا تُستهدف جموع المدنيين الساعين إلى رغيف أو كيس دقيق.. لكن فى غزة، ومنذ السابع من أكتوبر 2023 تحوّلت هذه المحرمات إلى وقائع يومية، فالمستشفيات تُدك وتُحاصر لتُخرج من الخدمة، مناطق تُختنق بالجوع عمداً، و»طوابير مساعدات» تُحصد بنيران كثيفة من الاحتلال. وعلى تخوم اليوم العالمى للعمل الإنسانى، تبرز غزة كأكبر امتحان أخلاقي-قانونى لعالم يقف مشاهد مجردا من كل العواطف.
يحمل يوم 19 أغسطس هذا العام شعاراً يُضاعف المفارقة فى غزة: «تعزيز التضامن العالمى وتمكين المجتمعات المحلية». على الأرض، تشير الأرقام إلى أن العاملين فى المجال الإنسانى أنفسهم يُقتلون بأعداد غير مسبوقة، وأن المجتمعات المحلية تُحاصر وتُمنع من الغذاء والدواء. لكن هذا الشعار يظلّ إطاراً لتعبئة الإرادات: تضامن دولى حقيقى يعنى فتح المعابر بلا قيد، وتسهيل دخول القوافل بكميات ومناطق توزيع كافية، وحماية نقاط التوزيع، ودعم المستشفيات مادياً وتشغيلياً، والضغط من أجل إنهاء الإفلات من العقاب.
منذ 26 يناير 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر وإجراءات تحفظية فى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بموجب اتفاقية منع جريمــة الإبــــادة، طالبــت فيهــا إســـــرائيل باتخـــاذ كل ما بوسعها لمنع الأفعال المندرجة تحت نطاق الاتفاقية، ومنع التحريض عليها، والأهم «تمكين» وصول المساعدات الإنسانية فوراً. ثم عدّلت المحكمة أوامرها فى 24 مايو 2024 مؤكدةً على وجوب وقف العمليات فى رفح الفلسطينية بما يتيح إدخال مساعدات الإغاثة على نحو فعّال. هذه أوامر ملزِمة قانوناً، لكن عبثا يحاولون.
حتى منتصف أغسطس الحالى، تُشير تحديثات الأمم المتحدة إلى أنّ عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا فى غزة منذ بداية الحرب فى 7 أكتوبر 2023 تجاوز 62 ألفا، وفق وزارة الصحة فىغزة، غير الأرقام التى لم يتم رصدها لوجود ضحايا تحت الركام. هذا الرقم يضع الحرب فى خانة النزاعات الأشد فتكاً بالمدنيين فى القرن الحادى والعشرين، ويشكّل خلفيةً لا يمكن فصلها عن ملفات المستشفيات والجوع وطوابير المساعدات.
تصف منظمة الصحة العالمية النظام الصحى فى غزة بأنه «على شفير الانهيار». ففى 22 مايو الماضى أكدت المنظمــة أنّ 19 فقــط من أصـل 36 مستشفى بقيت «عاملة جزئياً»، تكافح وسط نقص حاد فى الوقود والكوادر والأدوية، وتحت خطر الاستهداف المستمر. كما تتبدّل القدرة التشغيلية صعوداً وهبوطاً مع كل جولة قصف أو حصار أو إخلاء قسرى. وبحسب تحديثات أممية صحية وإنسانية خلال يوليو الماضى، ظلّ نحو 18 مستشفى فقط يعمل «جزئياً»، فيما يعمل جزء من العبء عبر مستشفيات ميدانية محدودة القدرة. هذه المؤشرات تعكس تدميراً واسعاً للبنى الصحية، وتعطى دلالة مباشــرة على أثر اســتهداف للمرافق الطبية.
لا تقتصر المأساة على تعطيل المستشفى كمبنى، بل تمتد إلى قتل المرضى والطواقم والزوار. فقد وثّقت منظمة الصحة العالمية فى وثيقة رسمية انّ ما بين 1 يناير 2024 و28 فبراير 2025 سُجّلت 376 هجمة على الرعاية الصحية فى غزة أسفرت عن 286 شهيدا و591 مصابا. وعلى مستوى الأرض الفلسطينية المحتلة عموماً منذ أكتوبر 2023، أحصت المنظمة 1,438 هجوماً أفضت إلى 907 وفيات و1,490 إصابة مرتبطة مباشرة بالاعتداء على الرعاية الصحية أو العاملين بها.
رغم أن القانون الدولى الإنسانى يحمى المرافق الطبية والأطقم الصحية بصورة مُشددة، الا أن الاستهداف المتعمد للمستشفيات أو استخدام القوة مستمر بلا هوادة وهو ما يرقى إلى جرائم حرب. ومع تكرار تلك الجرائم تصير الشبهة أقوى بوجود تعمد لا حوادث متفرقة.
منذ الشهور الأولى للحرب، أطلقت الأمم المتحدة تحذيرات من مجاعة «مصنوعة» ومع تقلّص دخول المساعدات الغذائية وانهيار سلاسل التوزيع، بدأ تسجيل وفيات بسبب سوء التغذية والجفاف، خاصة بين الأطفال وكبار السن. نقلت وكالة أسوشييتد برس عن وزارة الصحة فى غزة سقوط أكثر من 250 وفاة مرتبطة بسوء التغذية بينهم 110 أطفال مع التحذير من أن الرقم مرشح للارتفاع مع استمرار تقييد تدفق لإمدادات وتقييد الحركة الطبية.
من المشاهد الأكثر قسوة فى ذاكرة الحرب مشهد المدنيين المصطفّين فى طوابير على الطرق الساحلية أو عند نقاط إسقاط المساعدات، يتلقّون نيراناً قاتلة. خلال الفترة 18 مارس حتى 30 يونيو 2025 وحدها، وثّقت منظمة الصحة العالمية استشهاد أكثر من 583 مدنياً وإصابة 4,186 بينما كانوا يبحثون عن الغذاء أو أشكال أخرى من الإغاثة. ثم تزايدت الأحداث خلال يوليو وأوائل أغسطس. وفى 11 أغسطس الجارى، أفادت وكالة أسوشييتد برس بأن أكثر من 1,700 شخص قُتلوا أثناء السعى للحصول على الطعام منذ بدء «نظام توزيع جديد» للمساعدات فى مايو المتورطة فيها ما تسمى بمنظمة غزة الإنسانية، والتى اتخذت اسمها ستارا لاستهداف الجوعى تحت رعاية أمريكية إسرائيلية، فى دلالة على تفاقم الظاهرة بدل انحسارها. هذه الحصيلة وحدها تُظهر مدى خطورة انعدام الحماية فى نقاط التوزيع حيث ينبغى أن تكون الأكثر أماناً.
مصر الإنسانية..
قدمت 70 ٪ من المساعدات لغزة منذ بداية الحرب
قوافل الإغاثة نقلت نصف مليون طن من الغذاء والدواء

منذ السابع من اكتوبر 2023 ومع بداية حرب الإبادة التى شنها الاحتلال الإسرائيلى على غزة والتى تتعارض مع كافة القوانين الدولية والإنسانية، وفى ظل أزمة نقص الغذاء والدواء التى تعصف بأهالى القطاع، خاصة الأطفال المتأثرين من انتشار المجاعة، لم تتوان مصر عن تقديم يد العون والمساعدة للشعب المكلوم وقدمت صورة ناصعة للعمل الإنسانى المتكامل من خلال إدخال المساعدات الغذائية والطبية والإغاثية لإنقاذهم من نهاية مأساوية يسعى الاحتلال الغاشم لها.
بدورها القيادى قامت مصر بالتنسيق السياسى والدبلوماسى المكثف مع الأطراف الإقليمية والدولية لتأمين تدفق المساعدات وضمان التهدئة، واستقبال الفلسطينيين خاصة الأطفال والنساء فى مستشفياتها، مؤكدة أنها لا تترك الميدان السياسى أو الإغاثى.
وتتحرك مصر بثبات لإدخال المساعدات الإنسانية، وتفتح ممرات النجاة للمدنيين المحاصرين، فى موقف يجمع بين شجاعة القرار وسرعة الاستجابة انطلاقاً من التزامها الأصيل بجذور القضية وحقوق الشعب الفلسطينى، ورسالة واضحة للعالم بأن مصر لن تقبل بتصفية القضية أو التهاون مع خطط التهجير والعدوان.
ويشهد التاريخ أن مصر لعبت دورا محوريا عبر سنوات كثيرة فى حمل عبء القضية الفلسطينية ومساعدة الفلسطينيين للحصول على حقوقهم المشروعة، وذلك انطلاقا من دورها الإقليمى والدولى والعالمى.
أصرت مصر على الحفاظ على الهوية الفلسطينية برفضها وتصديها لمخطط الاحتلال لتهجير سكان قطاع غزة وتصفية القضية الفلسطينية، وأكدت مصر أن حل الدولتين هو الذى سيحقق الاستقرار فى المنطقة.
ومنذ بدء التوتر فى غزة، فتحت مصر معبر رفح البرى بشكل استثنائى لتسهيل عبور المساعدات الإنسانية والطبية والمواد الغذائية، ولتخفيف الضغط على القطاع الصحى المنهك.
وأكدت التقارير أن مصر قدّمت ما يقارب 70 ٪ من المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، منذ بداية الأزمة، لتثبت مرة أخرى أن دعم القضية الفلسطينية يُمثل عقيدة راسخة فى الوجدان المصرى.
ورغم التحديات الكبيرة التى تفرضها سيطرة الاحتلال الإسرائيلى على المعابر، أرسلت مصر ما يقارب من 500 ألف طن من المساعدات منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن، وسخّرت إمكاناتها اللوجستية من قطار وميناء العريش لاستقبال شحنات المساعدات العربية والأجنبية التى تعرقل إسرائيل دخولها .
ونجحت الجهود المصرية، بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة، فى التوصل إلى اتفاق هُدنة يتضمّن السماح بدخول 600 شاحنة يومياً إلى غزة، منها 50 شاحنة محمّلة بالوقود، مع تخصيص نصف المساعدات لشمال القطاع الأكثر تضرّراً.
ورغم تدمير الاحتلال الإسرائيلى لمعبر رفح من الجانب الفلسطينى، استمرت مصر فى إيصال المساعدات جواً، وأشرفت على دخول مئات الشاحنات محملة بمساعدات إنسانية إلى قطاع غزة تتضمن الدقيق والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية المخصصة للمستشفيات والمراكز الصحية عبر معبرى كرم أبو سالم وزيكيم.
بدوره لعب الهلال الأحمر المصرى، بوصفه الذراع الإنسانية للدولة المصرية دوراً كبيراً بالتنسيق مع الجهات المعنية من خلال تنسيق عمليات الإغاثة، وتجهيز قوافل المساعدات، والتعاون المستمر مع الجهات الدولية، مثل الأونروا ومنظمة الصحة العالمية لضمان إيصال الدعم للمناطق الأكثر تضرراً داخل قطاع غزة، وتسهيل دخول عشرات الآلاف من شاحنات المساعدات عبر معبر رفح البرى.
بالإضافة إلى إدخال عشرات سيارات الإسعاف للقطاع واستقبال آلاف الجرحى والمرضى الفلسطينيين فى المستشفيات المصرية.
كما يقوم التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى بدور مساند كبير فى تجهيز وإطلاق قواقل الإغاثة المحملة بآلاف الأطنان من المساعدات والمواد الإغاثية.
وإعمالاً للمادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة، التى تنص على ضرورة السماح بمرورالمساعدات الإنسانية للسكان المدنيين المحتاجين، تقوم مصر بدورها القانونى والإنسانى فقط دون اعتبارات سياسية. فمصر هى أكبر دولة قدمت مساعدات إنسانية لغزة بالأرقام وهى من استقبلت الجرحى والمصابين لعلاجهم، بالإضافة إلى المبادرات المصرية التى تستهدف تعزيز البنية التحتية الطبية فى القطاع.
ولم تتوقف الجهود عند حدود الإمدادات الغذائية والطبية فقط، بل شملت أيضاً إقامة سلسلة من المخيمات الإنسانية فى جنوب قطاع غزة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المهجرين بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية.