هذه القصة الواقعية جدا تقترب فى تفاصيلها من أفلام الخيال العلمى رغم أن مسرحها كان أحد البنوك الوطنية وبطلها رجل سبعينى يحمل توكيلات لتصفية تركة والده رحمه الله لتنفيذ وصيته بتخصيص مبالغ لأعمال الخير ودعم بعض المساجد الأهلية.. واستمرت تفاصيلها العبثية قرابة العشرة اشهر بالتمام والكمال.. قام خلالها بزيارة البنك لمحاولة انهاء الاجراءات أكثر من أربعين مرة.. وزار مواقع حكومية أخرى عشرات المرات للوفاء بطلبات البنك غير المنطقية.
وخلال هذه الرحلة الطويلة اضيفت الى خبراته معلومات جديدة لم يكن يعرفها.. وعلى سبيل المثال لا الحصر أن بيانات الرقم القومى غير دقيقة ولا يعتد بها.. وأن المعاملة التى يستغرق تنفيذها خمس دقائق تحتاج الى عشرين يوما وأن البيانات المسجلة فى قاعدة بينات البنك غير معترف بها والكثير من الحقائق الاخرى التى لا يتسع المقام لذكرها.
البداية كانت من اسمه المركب الذى ما إن لمحه موظف خدمة العملاء بالبنك حتى رفع حاجب السخرية الأيسر وقال فى ثقة يحسد عليها.. كيف نتأكد من أن اسمك مركب؟ ربما لا تكون ابن المتوفى.. أجابه الرجل السبعينى ان بطاقة الرقم القومى تثبت ذلك.. ففى جميع بطاقات الرقم القومى فى مصر يكون اسم صاحب البطاقة فى الأعلى وتحته اسم الوالد.. وإذا لم تكن تصدق انظر فى بطاقتك وبطاقات زملائك فى البنك.. أجاب الموظف بنفس الثقة التى يحسد عليها أن بطاقات الرقم القومى غير دقيقة وهو رأى يستحق عليه عقوبة الحبس لأنه يشــكك فى منظومة وطنية لا يرقى اليها الشك.
موظف خدمة العملاء أكد ان الاثبات الوحيد لحقيقة اسمه يتطلب احضار شهادة الميلاد وبدونها لن تصفى التركة.. هذه هى تعليمات البنك ويجب الالتزام بها.. وخرج الرجل السبعينى محبطا ليذهب الى مكتب السجل المدنى التابع له ويستخرج شهاد الميلاد.. رحلة شاقة فى حر قائظ وصحة متعبة.
المهم عاد الرجل السبعينى إلى البنك ومعه شهادة الميلاد متصورا أن متاعبه قد انتهت.. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. حيث وجد فى انتظاره مفاجأة أخرى عندما قال له موظف خدمة العملاء: من يدرينا ان الوالد المتوفى ليس مديونا للتأمينات الاجتماعية.. واسقط فى يده وتساءل فى دهشة كيف يكون مديونا للتأمينات الاجتماعية.. هل حصل على قرض منها مثلا.. قال موظف خدمة العملاء من يدرينا ان التأمينات لم ترسل له معاشه بعد الوفاة وفى هذه الحالة يجب رد مديونية التأمينات قبل تصفية التركة.. أجابه الرجل السبعينى: ولكن بيانات البنك توضح تاريخ آخر معاش اضيف إلى حساب المتوفى وبمقارنته بتاريخ الوفاة يمكن معرفة الإجابة عن تساؤلك.. أجاب الموظف بلهجة العالم ببواطن الامور ان البيانات المسجلة فى البنك لا يعتد بها ولا بد من احضار شهادة خلو طرف من التأمينات.. ومرة ثانية فشلت كل محاولات اقناع الموظف بأن الاجابة عن تساؤله موجودة أمامه على جهاز الكمبيوتر.. أجاب بعصبية هذه المرة أن تعلميات البنك تقضى بإحضار شهادة خلو طرف من التأمينات ولا يوجد حل آخر.. ومرة أخرى توجه إلى مكتب التأمينات ليطلب الشهادة العبثية.. ورغم ان البيانات موجودة أمام الموظفة على شاشة الكمبيوتر واستخراج شهادة خلو الطرف لا يستغرق سوى دقيقة أو دقيقتين الا ان موظفة التأمينات طلبت منه الحضور بعد شهر كامل لاستلام الشهادة.
وبعد شهر توجه الرجل السبعينى إلى البنك حاملا شهادة خلو الطرف غير المنطقية ومتصورا أن متاعبه قد انتهت.. ولكنها كانت قد بدأت.. فقد طلب البنك حضور جميع الورثة للتوقيع على فك شهادات الادخار الموجودة ضمن تركة المتوفى وعندما قال لهم انه يحمل توكيلات من معظم الورثة وانها كافية لفك الشهادات وان من بين الورثة مرضى كبار السن لا يستطيعون الحضور.. قالوا له سوف نستشير إدارة الشئون القانونية فى البنك ونتصل بك خلال اسبوعين.. ولم يتصلوا وذهب اليهم بعد شهر فقالوا له ان فك الودائع سيتطلب شهراً آخر.. وهكذا استمرت رحلة المعاناة قرابة عشرة اشهر.
