فى كل مناسبة سواء فى ذكرى رحيله أو تاريخ ميلاده اسأل نفسى وماذا بعد وقد كتبت عن نور الشريف بحكم علاقتى به وسفرى معه وأعود وأفتش وأبحث وأجد ما لم أعرفه لا أنا ولا غيرى من قبل.. وفى كل القصة يقفز شهر أغسطس إلى الواجهة.. لأنه الشهر الذى ارتبط فيه بقصة حبه الوحيدة والخالدة مع بوسي.. ولأنه أيضاً شهر الرحيل.. «2015». وبين هذه وتلك تكون الثقافة هى أهم ملامح صورة هذا الفنان.. وضعته فى الصدارة.. بفكره وخبرته.. وموهبته.. ومواقفه.. لكنها أيضاً كانت من أسباب الحرب عليه إلى حد اتهامه فى رجولته بفعل العاب صحفية سافلة سقط أصحابها وداستهم الأقدام وظل «محمد جابر» ابن السيدة زينب لامعاً شامخاً وطنياً إلى آخر لقطة فى حياته رسمها وأكد عليها وأوصى بها قبل رحيله واستلهمها.. لحظة وفاة عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين وهو يجسد دوره فى المسلسل الشهير الذى كتبه الكبير عبدالسلام أمين وأخرجه القدير أحمد طنطاوى حيث قال وهو يحتضر:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وهى الآية رقم 83 من سورة «القصص».. ولذلك كان صادقاً مع نفسه فلا يخجل من الاعتراف بأنه صنع بعض الأفلام التافهة وقدم التنازلات أحياناً لأجل المال والشهرة، لكنه فى كل هذا كان يحتمى بتاريخه الحافل ومواقفه الثابتة.. من أن الفن ليس وسيلة للتسلية فقط لكنه العامل الأهم والأكثر تأثيراً فى صناعة الوعى خاصة لدى شعوب العرب حيث إن نسبة الأمية فيها كبيرة حتى بين المتعلمين أصحاب الشهادات العليا لأن أمة لم تعد تقرأ.
وأذكر فى ذلك أنى أخبرته ونحن فى العراق باسم كتاب عالمى عن السينما ترجمه أحد الكتاب هناك.. وكان الكتاب قد صور قبلها بسنوات ولم يعد موجوداً بالمكتبات لكن نور رغم انشغاله بالمهرجان الذى سافر لأجله ظل يبحث عن مترجم الكتاب حتى وصل إليه.. ولم يبخل عليه الرجل بالنسخة الوحيدة التى تملكها زوجته حباً فى نور واحتراماً لرغبته فى اقتناء كتاب عنوانه «فهم السينما».
جيل عبدالناصر
سألناه كيف تهاجم عصر عبدالناصر وأنت ابن أيامه وأحد المريدين فى محرابه وكانت إجابته: أنا لم أهاجم عبدالناصر الذى أشاد إلى دورى فى مسلسل «القاهرة والناس» واعتبرتها شهادة غيرت مجرى حياتى بعد فترة لعب فيها الشيطان برأسى بسبب المال والشهرة، وكان المشهد الثانى الذى عرف به نور كيف أن أحد المغاربة الذين اصطفوا على جانبى الطريق فى الدار البيضاء لتحية الرئيس عبدالناصر فى السيارة المكشوفة التى كانت تقله مع العاهل المغربى محمد الخامس.
وفوجئ الرئيس ناصر بالمواطن يهتف بأعلى صوته: يا ريس سلم لى على إسماعيل ياسين!!
ولاحظ الرئيس كيف أن السينما وصلت إلى أقصى الغرب العربى وأوصى بأن يظهر النجوم فى حفلات أضواء ويقدموها ويسافروا معها فى داخل مصر وخارجها.. وكان ذلك فى عصر السينما والمسرح.. والتليفزيون فى خطواته الأولى «1960».. ومن هنا أيضاً قرر الرئيس جمال أن يتم تكريم أهل الفن فى عيد العلم فى اشارة قوية للربط بين العلم والفن.
وهكذا عرف نور مبكراً أن ثقافته تحميه وتربطه بمجتمعه.. ووطنه المصرى والعربي.. وعندما قدم «الكرنك» تعرض للهجوم من الناصريين وعندما جاء عصر السادات وقدم فيلم «أهل القمة» الذى هاجم فيه الانفتاح.. تعرض للهجوم من أنصار السادات.
وأثارت مسرحية «بكالوريوس فى حكم الشعوب» جدلاً واسعاً أيام السادات.. ليس بسبب ما فيها من سياسة صارخة.. فهى عبارة عن معسكر لتدريب القيادة والرؤساء الجدد على فنون الحكم وكان «على الشريف» زعيماً للدولة فى أفريقيا ونصحوه أن يطبق الديقمراطية ويترك للشعب حرية السفر على راحته.. وعمل بالنصيحة.. وكانت النتيجة أن الشعب كله خرج وخلت البلد تماماً إلا من زعيمها الذى أخذ يبكي: ماليش دعوة عايز شعبي!!
أما نور الشريف ففى أحد المشاهد يطلب من أحد القادة فى المسرحية أن يكون موقفه واضحاً مع هؤلاء أو هؤلاء؟.. لأنهم سوف يسألونك أين كنت ليلة الثورة؟
جلجلت ضحكة الكاتب العبقرى فى الصالة وهو يشاهد المسرحية وقال: كان فى السينما.
وكانت اشارة إلى ما فعله السادات ليلة 23يوليو 1952 .. وذهبت لجنة من البرلمان تشاهد العمل والحمد لله لم يكن إدريس موجوداً وأجازوا المسرحية ثم تكرر الصدام مع النبوى إسماعيل بعد فيلم «أهل القمة» بحجة أنه يسيء إلى ضباط الشرطة وتم تغيير بعض المشاهد وعرض العمل.. وكان السادات سابقاً قد طلب مشاهدة فيلم «الكرنك» الذى يكشف عن التعذيب أيام عبدالناصر وهو ما أعجبه جداً حتى أنه طلب من المخرج على بدرخان إضافة ثورة التصحيح إلى النهاية.. بعد أن كانت هناك اعتراضات على بعض مشاهد الفيلم.
أنفق نور من جيبه الكثير فى انتاج فيلم «ناجى العلي» عن رسام الكاريكاتير الفلسطينى الشهير الذى تم اغتياله فى لندن بعد أن كانت رسوماته وبطلها حنضلة.. تلهب ظهور رجال السياسة حباً فى وطنه فلسطين فأصبح مكروهاً من القيادات ومحبوباً من ملايين العرب.. وهو ما شجع نور على تقديم قصة حياته فى فيلم كتبه بشير الديك وأخرجه عاطف الطيب وصور أغلب مشاهده فى لبنان.. وبسبب ذلك تعرض نور لحملة ظالمة طالت رجولته وشرفه.. ووطنيته.. ولم ينقذه إلا صفوت الشريف عندما أسند إليه بطولة مسلسل «الثعلب» من قصص المخابرات المصرية.
ثم قدم بعدها ما جعله من ألمع ابناء جيله «لن أعيش فى جلباب أبي».
ولانه متنوع الثقافة ولا يتعصب لموقف او اتجاه فكرى بعينه قدم عمر بن عبدالعزيز/ هارون الرشيد/ حضرةالمتهم أبى وقد اعجبه فى هذا المسلسل ان المؤلف الكبير محمد جلال عبدالقوى حاول من خلاله ان يعيد الجلال والهيبة إلى شخصية المدرس بعد ما فعلته مدرسة المشاغبين المسرحية ثم الفيلم الذى شارك نور الشريف نفسه فى دور بهجت الاباصيري.. ولكنه لا يكابر ويعترف بالخطأ وحاجته للمال.. وخاصة انه ينتج به ما يقدم السينما الحقيقية.
مغامراته
بقدر ما قدم فى تاريخه الفنى الا انه كان شغوفا بالمغامرة فى اعمال خارج الحدود فقد جاءت الترشيحات من روسيا ليلعب بطولة فيلم يؤدى فيه دور قطز.. لكنه اختار دور بيبرس.. وظلت المناقشات دائرة بين الروس مع نور والمنتج المشارك حسين القللا.. وكانت التحضيرات تجرى لهذا الفيلم العالمى واستقر الامر فى النهاية على ان يؤدى نور دور بيبرس فى نسخة عربية واخرى ناطقة بالروسية.. لكن الانتاج تعثر بسبب الظروف السياسية التى ادت فيما بعد إلى تفكك الاتحاد السوفيتي.
ثم كانت تجربته الاخطر والعالمية ايضا فى فيلم «خيط ابيض خيط اسود» للمخرج بوغالب البوديكى وكان يتم تصويره فى ايطاليا بمشاركة صفية العمرى وامينة رزق إلى جانب الممثلة الايطالية «دانيلا سيلفيرين» التى ادت دور محامية يهودية منحازة لاسرائيل لكنها بعد مقابلات بعض المعتقلين فى سجون العدو تغير رأيها وتؤيد القضية الفلسطينية والفيلم جرى تصويره بالفعل.. لكن فجأة اختفى «النيجاتف» او اصل الفيلم.. واثبتت التحريات بعد ذلك ان الموساد ارسل إلى المغرب من قاموا بعملية سرقة الفيلم منعا لعرضه لانه يفضح الاحتلال الصهيونى فى اوروبا لان كاتب الفيلم هو السيناريست الايطالى الشهير «سيرجيو أمادي» وكانت تكلفة الانتاج للعمل فى 1984 هى 5 ملايين دولار.
والمخرج ينتمى إلى مدينة «القصر الكبير» بالمغرب لكنه هاجر بعد فترة إلى ايطاليا واستقر بها وعمل بالصحافة والافلام لفترة وكانت ميوله يسارية ويحلم بتقديم عمل عن فلسطين وهو ما وصل اليه فعلا.. بنجوم من ايطاليا، فرنسا والمغرب وامريكا.
والغريب ان الفيلم اكتمل تصويره فعلا.. ولا يزال اختفاء العمل من الالغاز وما يظهر فى الاعلام مجرد لقطات بسيطة واقتصر الدور من المغامر الكبير والشريف ان يحلق شعره كاملا فى لقطات تعذيبه داخل سجون العدو.
وهكذا حرمت الاقدار نجمنا الاستثنائى من عملين عالميين فى غاية الاهمية تكشف قدرات هذا الفنان وتواجده البارز على الساحة وهى ادوار بطولة وليست مجرد مشاهد عابرة يظهر فيها لكى يعدد ويعتبر نفسه بعدها عالميا.. مثل هذا الافاق الذى ذهب إلى امريكا سائحا فى وقت يتعرض فيه الشعب الفلسطينى للابادة بالسلاح الامريكى لكى يتباهى بصورة لا معنى لها مع واحدة من عائلة ترمب ثم يدعى انهم احتفلوا به هناك هى خيبة بالويبة.
سبحان الله عندنا قائمة بارزة ومشرفة من نجومنا أبهروا العالم.. عبدالله غيث الذى صفق له انتونى كوين اثناء تصوير فيلم «الرسالة» ونور فى روسيا وايطاليا وجائزته الكبرى فى مهرجان نيودلهى عن فيلم «سواق الاتوبيس» بعد ان تآمر عليه مهرجان فينيسيا بجائزة عن نفس الفيلم وعندنا العالمى بحق عمر الشريف الذى ظل مصريا إلى اخر ايامه وله الحق «نور» ان يربط اسمه بالشريف فقد اخذ من الفن ما اخذ وانفق وصرف عليه اغلب ما جمع فى انتاجات خالدة.. وظل يحلم بالكثير لولا ان المرض افترسه فى ايامه الاخيرة. وسبحان الله هناك من يرحل لكنه يعيش بسيرته واعماله.. وهناك من يعيشون ويصدعون رؤوسنا 24 ساعة بالهايف والعبيط وهم فى عداد الاموات.