شهدت مصر فى العقد الأخير طفرة غير مسبوقة فى حجم ونوعية المشروعات القومية، والتى تنوعت لتشمل إنشاء وتطوير شبكات عملاقة من الطرق والكبارى، والموانئ الحديثة والمناطق اللوجستية، ومحطات الكهرباء، ومشروعات المياه والطاقة المتجددة، فضلاً عن التوسع فى إنشاء المدن الجديدة.
هذه الطفرة غير المسبوقة والتى ليس من شانها فقط أن تهيئ المناخ لاقتصاد أكثر تنافسية لعقود قادمة ولكنها أيضاً انعكست بالفعل فىنفى العديد من المؤشرات المحلية والدولية.
فعلى سبيل المثال تحسن ترتيب مصر فى مؤشر جودة الطرق إلى المركز 18 عالميًا عام 2024 بعد أن كانت فى المركز 118 فى 2015، وتقدمت إلى المركز 57 فى مؤشر الأداء اللوجستى العالمى لعام 2023 مقارنة بالمركز 67 فى 2018، كما بلغ معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى 4.77% فى الربع الثالث من العام المالى 2024/2025، وتراجع معدل التضخم إلى 13.9% فى يوليو 2025 بعد أن كان قد وصل إلى نحو 38% فى سبتمبر 2023، بجانب تسجيل القطاع الخاص غير النفطى أول زيادة فى الوظائف منذ تسعة أشهر.
هذه الطفرة تعد ذات عائد غير مباشر (أو ما يمكن ان نطلق عليه تجاوزاً عائد غير منظور) يتمثل فى تحقيق العديد من الوفورات الاقتصادية التى من شأنها أن تعزز القدرة الإنتاجية وتجذب رؤوس الأموال. من هذه الوفرات الاقتصادية – على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر – خففض زمن النقل ونسب التالف من السلع لارتفاع جودة الطرق، أو انخفاض الوقت اللازم للتخليص الجمركى بسبب تطوير ميناء معين، أو ضمان استمرار إمدادات الكهرباء والطاقة سواء للصناعات وللمنازل نتيجة الاستثمار فى مشروع ضخم لتوليد الكهرباء.
هناك عدة أسباب تفسر تأخر شعور المواطن بالعائد من الاستثمار فى المشروعات القومية الكبرى، من أهمها:
- أولًا: أن التجارب العالمية أوضحت أن المشروعات القومية فى أى بلد فى العالم تعد استثمارات طويلة الأجل لا يظهر عائدها الكلية فى الأجل القصير، ولكن تحتاج وقتاً حتى يشعر المواطن بعائدها. فعلى سبيل المثال فى الصين والهند، لم يظهر الأثر الكامل لمشروعات البنية التحتية الضخمة إلا بعد سنوات من التشغيل، حين بدأت المصانع الجديدة والخدمات اللوجستية المحسنة توفر فرص عمل وتزيد من الصادرات.
- ثانيًا: العوائد الناتجة عن تلك المشروعات تظهر عادة عند التشغيل الكامل وليس بمجرد انتهاء الإنشاء أو التشغيل الجزئى لتلك المشروعات.
- ثالثًا: عوائد المشروعات القومية ذات حساسية كبيرة للتغيرات الاقتصادية مثل التضخم العالمى بعد جائحة كورونا خلال السنوات الماضية والذى أثر بشكل كبير على توقيت وحجم عوائد تلك المشروعات.
- رابعًا: الاضطرابات الإقليمية من شأنها أيضاً أن تقلص – ولو بشكل موقت – العوائد المتوقعة من تلك المشروعات. فعلى سبيل المثال انخفضت العوائد المتوقعة من تشغيل قناة السويس بمعدل 54.1% نتيجة الاضطرابات والتوترات الجيوسياسة وتأثيرها على حركة الملاحة فى البحر الأحمر.
- خامسًا: أن عوائد تلك المشروعات ذات طبيعة تدريجية مرحلية تنتقل بين القطاعات المختلفة. بمعنى آخر أن عائد تلك المشروعات يبدء أولاً فى الظهور فى القطاعات المرتبطة مباشرة بالبنية التحتية، مثل النقل وخدمات الأمداد واللوجستيات، ثم يمتد تدريجياً إلى باقى القطاعات الاقتصادية.
- سادسًا: التوقعات المبالغ فيها بشأن ما يمكن أن تحققه تلك المشروعات من قفزات وعوائد فورية قصيرة الأجل تنعكس بشكل مباشر فى تحسين المستوى المعيشى للمواطن تخلق فجوة كبيرة بين الواقع والمتوقع من الاستثمار فى تلك المشروعات.
الحكومة المصرية تدرك هذه الحقائق وتعمل على تحويل الاستثمارات فى المشروعات القومية إلى مكاسب ملموسة يشعر بها المواطن من خلال العمل على العديد من المحاور الاستراتيجية منها تشغيل مشروعات البنية التحتية بكفاءة عالية لتحقيق أقصى مردورد اقتصادى.
أيضاً خلق العديد من فرص التوظيف المباشرة وغير المباشرة من خلال ربط شبكة الطرق والموانئ بالمناطق الصناعية والمراكز اللوجستية. كذلك تسعى الحكومة المصرية إلى تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص وأعطاء أولوية لزيادة المكوّن المحلى فى التصنيع وسلاسل التوريد، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مع العمل على ترشيد الإنفاق وإعادة توجيه الموارد المتاحة إلى المجالات التى تحقق أعلى مردود اقتصادى واجتماعى.
إن ما تقوم به مصر الآن هو استثمار استراتيجى فى مشروعات قومية كبرى قد لا يظهر أثره بشكل فورى فى حياة المواطن اليومية فى الأجل القصير، لكن ما يتم إنجازه اليوم هو بناء اقتصاد قوى قادر على ترشيد تكاليف الإنتاج، وتقديم خدمات أكثر جودة، وخلق وظائف أفضل تتماشى مع احتياجات سوق العمل بما سينعكس حتماً على مستوى المعيشة فى المستقبل القريب بإذن الله.