الجولة الثالثة من المشاورات السياسية بين مصر وكوت ديفوار، التى احتضنتها القاهرة مؤخراً، لم تكن مجرد لقاء برتوكولى بين وزيرين يتبادلان الابتسامات أمام عدسات الكاميرات، بل كانت محطة مهمة فى مسار شراكة استراتيجية تتجاوز حدود العلاقات الثنائية لتلامس قضايا مصيرية تمس أمن القارة الأفريقية واستقرارها.
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وياموسكرو عام 4691، حرص البلدان على نسج روابط تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وقد تعمقت هذه الروابط عبر عقود من التعاون فى مجالات التعليم والصحة والنقل والزراعة، حتى باتت كوت ديفوار واحدة من أهم شركاء مصر فى منطقة الساحل وغرب أفريقيا واليوم، تأتى هذه الجولة لتدفع بالعلاقة نحو آفاق أرحب، وتفتح مسارات جديدة للتعاون فى قضايا الأمن والتنمية.
فى زمن تتشابك فيه التحديات الأمنية مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تدرك مصر أن مكافحة الإرهاب فى أقريقيا ليست مهمة عسكرية فقط، بل هى مشروع شامل يعالج جذور التطرف من خلال التنمية وبناء القدرات ونشر ثقافة التسامح، ومن هنا، جاء إعلان القاهرة استعدادها لدعم كوت ديفوار فى تأسيس معهد للدراسات الدبلوماسية، ليكون منصة لصناعة الكوادر القادرة على إدارة الملفات الحساسة بحرفية ووعي.
هذا التوجه يتسق تماماً مع رؤية مصر للنهج المتكامل فى مكافحة الإرهاب، الذى يجمع بين الأمن والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفكرة، ويعتمد على تبادل الخبرات وتكامل الجهود الإقليمية فمصر، بخبرتها الممتدة، تقدم برامج تدريبية متخصصة، وتوفد بعثات الأزهر الشريف لتعزيز الوسطية، وتعمل من خلال «مركز القاهرة الدولى لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام» على تمكين دول الجوار من مواجهة التحديات المعقدة التى تهدد أمنها واستقرارها.
تكتسب كوت ديفوار أهمية خاصة فى الرؤية الاستراتيجية المصرية، فهى ليست مجرد دولة صديقة، بل هى بوابة إلى منطقة حيوية تؤثر بشكل مباشر فى الأمن القومى المصري، فاستقرار غرب أفريقيا يعنى الحد من تدفقات الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غيرة الشرعية، وهو ما ينعكس إيجاباً على أمن مصر والمنطقة برمتها.
كما أن لكوت ديفوار دوراً نشطاً فى المنظمات الإقليمية، خاصة «الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (الإيكواس)، ما يجعل التنسيق معها ركيزة أساسية لدعم المواقف المصرية فى المحافل الأفريقية والدولية.
وليس أدل على عمق هذه الشراكة من دعم ياموسوكرو لترشح الدكتور خالد العنانى لمنصب مدير عام اليونسكو، فى خطوة تؤكد متانة العلاقات السياسية والثقة المتبادلة.
التعاون بين البلدين لم يتوقف عند الملفات الأمنية والسياسية، بل امتد إلى مشروعات تنموية واستثمارات متبادلة، حيث تدعم الحكومة المصرية شركاتها الوطنية للاستثمار فى كوت ديفوار، الدولة التى نجحت فى تهيئة مناخ جاذب للأعمال، من البنية التحتية إلى الزراعة، ومن التعدين إلى توطين الصناعات الدوائية، تضع مصر خبراتها وامكاناتها فى خدمة الأشقاء، إدراكاً منها أن التنمية المستدامة هى السياج الحقيقى ضد الفوضي.
ما ميزه أن هذه الجولة من المشاوات هو إدراك الطرفين أن تعاونهما لا يقتصر على مصلحتهما المباشرة، بل يمتد أثره إلى محيط أوسع، فدعم قدرات دول غرب أفريقيا فى مواجهة الإرهاب، والمساهمة فى حل النزاعات الإقليمية، وتنسيق المواقف فى الملفات القارية، كلها خطوات تجعل من الشراكة المصرية – الإيفوارية نموذجاً للتعاون الأفريقى – الأفريقي، القائم على الندية والمصلحة المشتركة.
إن ما يجمع القاهرة وياموسوكرو اليوم هو أكثر من مجرد اتفاقيات، إنه التقاء ارداتين سياسيتين على أن أمن القارة وتنميتها لا يتحققان إلا بالتعاون الصادق والرؤية الواضحة، وهى رسالة بالغة الأهمية فى زمن تشتد فيه الأزمات وتتعقد فيه التحديات.