–كتابة الرواية فرصة عظيمة للاستمتاع بالحرية الإبداعية
–دانينوس رمز إنساني وليس مجرد صاحب فكرة مشروع السد
مغامرة كبرى خاضها بجسارة لافتة الشاعر والروائي والكاتب الصحفي وائل السمري حين قرر إصدار روايته الأولى” لعنة الخواجة” التي صدرت حديثا عن الدار المصرية اللبنانية وللمغامرة وجوه كثيرة في واقع الأمر؛ ففي الغالب يتحسس الشعراء الذين يقررون طرح تجاربهم السردية الأولى خطاهم حين يعلنون عن ” أول رواية” لهم في مشهد يزينه نجوم كبار في عالم السرد المصري والعربي ، أما السمري فقد كسر القاعدة ودخل ” بصدره” وبثقة” صحفية” بالغة ويقين ” أدبي” راسخ بدءا من طرحه رواية تجاوزت ال 650 صفحة، فلم يعبأ ولم ينشغل إلا بتقديم تجربة سردية متماسكة فنية وأدبيا يقول فيها ما يريد تاركا الحكم للقارئ، لكن الأجمل فعلا أن يتحول هذا الحجم الكبير نسبيا إلى ميزة إضافية للرواية بعد أن كان هاجسا في البداية،.. ولنقف بعد ذلك أمام الجانب الأكثر إثارة في الرواية وهو موضوعها حيث عرف عن السمري عشقه لجمع التحف والأنتيكات وبحثه الدائم ونبشه المتواصل بشغف في الأرشيفات المجهولة والأوراق المنسية والوثائق القديمة حتى وقع في إحدى جولاته على ” كنز” من الأوراق والوثائق الخاصة بصاحب فكرة ” السد العالى” وهو المهندس الزراعي المصري أدريان ألبير دانينوس سليل الأسرة اليونانية التي عاشت في الإسكندرية وفي حقيبة ” دانينوس” التي حصل عليها السمري وجدا تاريخا كاملا وسجلا وصورا ووثائق متنوعة تحكي قصة كفاح هذا الرجل المصري ” العجيب ” الذي صارع بإخلاص من أجل تمرير فكرة ” السد العالى” وعرضها على الحكومات المتعاقبة منذ عهد الملكية حتى قيام حركة الضباط الأحرار وقاتل من أجل تحقيقها.. ويبدو أن مطالعة السمري لكم الوثائق والصور والخطابات والتفاصيل وتماهيه مع كفاح” دانينوس” وحياته قد صادفت اللحظة المناسبة التي كانت تمور داخله ليبدأ مشوار “السرد” وتخرج للنور” لعنة الخواجة” التي قدمها الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد تقديما رائعا على ظهر الغلاف .. والحقيقة أن من يقرأ الرواية يكتشف على المستوى الأدبي أنها ليست رواية واحدة وأنها أكثر من رواية انصهرت خيوطها وتضافرت تفاصيلها بشكل يصعب تجزئتها لتبدو في النهاية عملا واحدا لا يقدم السمري كروائي يحسب له ألف حساب، فقط بل عملا يضيء حقبة من تاريخ مصر وتاريخ إنشاء “السد العالى” أهم منجزات ثورة يوليو 52 ويعيد شخصية ” دانينوس” إلى الحياة من جديد برؤية أوسع ومنظور مختلف ينطوي على جوانب إنسانية تزاحم حقائق التاريخ وتقتنص منها القدرة على الإدهاش.. الرواية حققت في وقت قصير حضورا لافتا، كما أن لصاحبها أعمالا أدبية متعددة في الشعر والمسرح وقد حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية والصحفية الهامة.
حوار/ نهى محمود
- أنت شاعر و”لعنة الخواجة” أول رواية لك أليست مغامرة كبيرة أن تخرج في هذا الحجم الكبير؟
أنا نفسي لم أكن أتوقع أن تخرج الرواية بهذا الحجم، وربما كانت هذه هي المفاجأة الوحيدة لي في الرواية، لكني لم أضع مسألة الحجم في خاطري أو أنظر لها باعتبارها عائقا، كل ما كان يشغلني هو أن أكون أمينا في نقل الحالة الوجدانية للرواية وأن أكون مخلصا للدراما التاريخية والواقعية التي نسجتها في الرواية، وشيئا فشيئا تحول حجم الرواية كما تنبأ الروائي الصديق “أشرف عبد الشافي” إلى ميزة، وأقابل الآن الكثير من القراء الذي يقولون لي إنهم كانوا يريدن أن تطول الرواية أكثر.
- مع إتساع الفترة الزمنية وتعدد شخصيات الرواية ألم تفكر في تقسيمها مثلا لعدة روايات أو حتى رواية من أجزاء؟
كما ذكرت لك فأنا لم أكترث كثيرا للشكل النهائي للرواية، لكن شغلتني الحالة، وفكرة تقسيمها إلى أجزاء طرحت بالفعل علي من دار النشر لكني رفضتها لأني لم أكن مقتنعا بتقسيم الحالة الشعورية إلى جزئين أو ثلاثة، كل ما شغلني في الحقيقة هو البناء الدرامي المتماسك والحفاظ على روح الشغف التي عاش بها أبطال الرواية تفاصيل حياتهم سواء كانوا أبطال من الواقع أو من الخيال.

(خطة الكتابة)
- حدثني عن الخط البنائي لعمل بهذه الضخامة هل كانت لديك خطة كتابة واضحة، أم إنك أمسكت طرف الخيط ثم قادتك الرواية عبر عوالمها ؟
دائما ما كنت أردد أن هذه الرواية “مهندسة” وقد يدهش من يعرف أن آخر جملة في الرواية التي بين يد الجمهور هي أول جملة كتبتها في الواقع، فقد رسمت كل شيء بعناية ودقة قبل أن أبدأ، وكان مسار الرواية واضحا جليا أمامي منذ البداية إلى النهاية، ولم يتمرد علي أحد من شخصيات الرواية سوى شخصية “عالية” زوجة ناصر الحسيني التي رفضت أن أشوه سيرتها أو أجرح صفاء إخلاصها، فاضطررت – منصاعا – إلى تغيير الأحداث لكي أحافظ شخصيتها.

(فكرة مؤجلة)
- مشهور عنك حبك للبحث والسعي لإقتناء الوثائق والصور والأنتيكات ..فهل عشقك للتاريخ هو الدافع الأصيل لكتابة لعنة الخواجة؟
ليس العشق للتاريخ فحسب، وإنما عشقي لفكرة الإخلاص، وعشقي لفكرة النضال من أجل الأحلام، فدائما ما كانت الرواية في مساري الإبداعي “فكرة مؤجلة” لكني شعرت بمسؤولية كبيرة حينما أمسكت بأوراق دانينوس في موقف شبيه لموقف بطل الرواية، وتمنيت أن يحصل هذا الرجل الجسور على حقه التاريخي الذي سلب منه، وعلى يديه تحولت فكرة الرواية من فكرة مؤجلة إلى حقيقة.
- ما الذي أغراك في شخصية أدريان دانينوس لترده إلى الحياة بهذا الشكل الموسع داخل الرواية وتغوص في حياته الخاصة حتى بعيدا عن دوره في فكرة السد العالى؟
دانينوس بالنسبة لي ليس فقط ذلك الرجل صاحب فكرة السد العالي لكنه رمز حقيقي من رموز الإنسانية، فهو المصري الجنسية ابن الأب الفرنسي صاحب الأصول اليونانية والذي اختار أن يعيش لفكرته، وأن يدافع عنها، وأن يذهب في عشق مصر وأرضها وشعبها إلى آخر مدى فقرر أن ينفق كل ما لديه من أجل فكرته، بل أوشك على التضحية بحياته نفسها في سبيل مصر حينما قرر أن يتطوع في الكفاح الشعبي أثناء العدوان الثلاثي على مصر وهو شيخ في السبعين، فكانت مسألة الغوص في حياته ونشأته بل حتى في حياة أبيه كما هو واضح في الرواية ضرورة درامية من أجل إيضاح أسباب هذا العشق وتفهم هذه التضحيات.
- بطلك “ناصر” صحفي ، وهناك خيط تماس ما بينك وبينه منها المرور على عالم الانتيكات فهل قصدت ذلك؟
أستطيع أن أؤكد لك الآن أن ناصر الحسيني ليس وائل السمري على الإطلاق برغم هذا التشابه الواضح، وإن كنت لا أنكر في ذات الوقت إنه يحمل الكثير من صفاتي وأحلامي، ولكي أفض هذا الاشتباك الواقع منذ نشر الرواية سأقول لك أني بالفعل ارتكزت على الكثير من الوقائع الحياتية التي عشتها، واستخدمت الكثير من التجارب التي خبرتها لكن شيئا فشيا ومن تحولات الرواية تحول ناصر إلى شخص آخر، أراه الآن مثل صديق قديم يلوح لي بابتسامة.
– وثيقة من أوراق الرجل أبكتني وأطلقت شرارة ” الرواية”

* هل كنت ستلجأ للسرد حتما آجلا أم عاجلا مثل كثير من الشعراء الذين ذهبوا في اتجاه الرواية حتى بلا وثائق أو اكتشافات؟
كنت أقلب في أوارق دانينوس غارقا في تفاصيلها، وإذا بي أجد خطابا منه إلى المهندس محمود يونس الداعم الأول لدانينوس في مجلس قيادة الثورة فإذا به يشكره على دعمه الشخصي له، ثم يقول له إن “السلفة” التي طلبها من الدولة لم تأت شارحا له مدى الشظف الذي يعيش فيه، ثم يقول له “لكن على العموم فقد كنت احتاج هذه السلفة لعلاج زوجتي وكنت سأردها حينما أتمكن من بيع أرضي في الاسكندرية، وقد ماتت زوجتي الآن”
في هذه اللحظة بكيت لأول مرة وأنا أطالع أوارق دانينوس، وتبعتها بكاءات كثيرة بعد ذلك، لكني مدين لهذه اللحظة لأني قررت فيها أن أكتب الرواية بعدما كانت فكرة مؤجلة.
*الأحداث في الرواية تقفز بين الأزمنة برشاقة ولا تلتزم خطا زمنيا منتظما ما الذي دفعك لاختيار هذه التقنية؟
هذا تحد من تحيات كثيرة اخترت أن أخوضها في الرواية، فقد استبعدت منذ البداية أن أكتب وفق خط زمني منتظم لكي أتغلب على نمطية السرد لكني في ذات الوقت كنت حريصا على عدم تشتيت انتباه القارئ، فمزجت بين حياة ناصر الحسيني وأدريان دانينوس لكي أحتفظ دائما بخيوط الدراما دون ترهل، وقد منحتني هذه التقنية إمكانيات كثيرة جعلتني مبتهجا وأنا أمارس ألعاب السرد التي فرحت بها وكأني طفل صغير اكتشف للتو عالما مدينة عامرة للألعاب والحيل.
- صار فن الرواية في عصرنا فنا معرفيا يتضمن ألوانا كثيرة من المعارف ومزجا أحيانا بين الفنون فكيف يرى السمري هذا الفن وأين تقع الرواية المصرية الآن وما الأسماء التي يمكن أن يشير لها في هذا السياق؟
فن الرواية بالنسبة لي هو فرصة سعيدة لممارسة الحرية، ولهذا تستوعب الرواية كما ذكرت قيم المعرفة كما تستوعب تقنيات الفنون الأخرى، فقد أكون شاعرا في مقطع وسينمائيا في آخر، ومسرحيا في ثالث، كما تعد المعرفة سواء كانت معرفة إنسانية أو ثقافية عمادها الأول، والرواية المصرية تقدم للقارئ العربي كل هذا برشاقة فاتنة حتى هذه اللحظة، وإذا نظرنا إلى إصدارات هذا العام فقط سنجد العديد من الأسماء مثل عزت القمحاوي وأحمد صبري أبو الفتوح وأشرف العشماوي وريم بسيوني وطلال فيصل ومصطفى عبيد ونورا ناجي وولاء كمال ومحمد عبد الجواد، وأحمد إبراهيم الشريف وأحمد القرملاوي، ومحمود عبد الشكور وغيرهم كثيرين.
(الشعر والسرد)
* حضر الشعر بأشكال مختلفة في المتن إما بالاستشهاد أو على لسان الشخوص أو في السرد الشعري أحيانا عبر لغة مجازية شفيفة فهل وعيت وقصدت هذا أم هو طغيان الشاعر وحضوره رغما عنك وهل أفاد هذا الحضور السرد في نظرك؟
أنا لم أتعمد أبدا أن أستحضر روح الشعر في الرواية، بل على العكس تماما، فقد قررت منذ البداية ألا أسمح للشاعر بالاستحواذ على لغة السرد، وهي الملاحظة الذكية التي انتبه إليها الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد في كتابته عن الرواية مؤكدا أن شاعرية “لعنة الخواجة” لا تنبع من الارتكاز على جمالية اللغة لكنها تنبع من جمالية البناء الدرامي، وهي ملاحظة ذكية لا تأتي إلا من خبير وعالم أدين له بالكثير من الفضل.

* هل تعتقد أن الرواية ستشكل نقطة تحول في التعريف بتاريخ السد العالى الذي لا يعرف عنه المصريون الكثير؟ لاسيما أنك نشرت الكثير من الوثائق التي تعيد الاعتبار وتؤكد على دور دانينوس في رحلة السد العالى؟
هذا ما أحلم به، وقد تحقق هذا الحلم نسبيا بعد نشر الرواية، وقد كنت أقول دائما إن نصيب أدريان دانينوس من كتاب التاريخ “سطرين” أما الآن فهناك رواية تذكر مسيرته بكثير من التفاصيل، وهناك عشرات المقالات التي تذكره وتدين له بالفضل، وهناك أيضا تمثال مهيب صنعه له الفنان الكبير عصام درويش أحد أهم نحاتي مصر، ووضع جهاز التنسيق الحضاري لافتة “عاش هنا” على بيته الذي عاش فيه وفكر وتألم وحلم، كل هذا أتى بعد الرواية ومازلت أحلم كما حلم ناصر الحسيني بأن ننشء لهذا الرجل العظيم متحفا يحفظ تاريخه ويخلد ذكراه، وأن أتفرغ لعمل كتاب وثائقي عن رحلة السد العالي من خلال أوارق دانينوس.
(حقائق تاريخية)
- لماذا تضمنت الرواية مقالات ووقائع تاريخية حقيقية وفي ختام الرواية ثبت بالمراجع والمستندات؟
في ظني أن الوثائق التي أوردتها في نهاية الرواية أضافت الكثير للرواية فهذه الوثائق تصرخ في يد القارئ بأن من رآه من وقائع من لحم ودم، وهو ما أردته منذ البداية، كما أني ذكرت المراجع التي ارتكزت عليها في السرد من باب الأمانة العلمية، وهذا أمر بديهي في رواية تكاد ترصد تاريخ مصر الحديث في 150 عاما، كما أني اقتبست الكثير من الكلمات والفقرات من المراجع المختلفة، ورأيت أنه من باب الأمانة ألا أنسب هذا الأمر لنفسي، ولا أظن أن هذا كله قد يخصم من الرصيد الفني للرواية، فالمراجع “مطروحة على الطريق” أما الرواية فهي شيء آخر.
- بصراحة هل تطمح في جائزة كبرى للعنة الخواجة أو فكرت فيها وأنت تكتب.. مع الاعتراف بأنها عمل جدير بالتقدير فعلا؟
بصراحة مطلقة، أنا أتعامل مع هذه الرواية بعاطفية شديدة، وأي تقدير ستحصل عليه الرواية سأكون ممتنا به وسعيدا سواء كان هذا التقدير رأي من قارئ أو مقال من ناقد أو جائزة رفيعة، لكن الشيء الوحيد الذي كنت أحلم به أثناء الكتابة هو أن تؤثر الرواية فيمن يقرؤها، أن تفتح له نافذة إذا يأس، وأن تجبر خاطر الحالمين، وأن تضح دماء الأمل في عروق اليائسين، فالتأثير في الإنسان هو الجائزة الكبرى، وأكثر ما يسعدني الآن هو أن أسمع قارئا يقول إنه كان يتمنى ألا تنتهي الرواية أو أنه فرغ من القراءة لكن الرواية مازالت تعيش معه،
- أنت عضو في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة وحزت أكثر من جائزة فكيف ترى المشهد الشعري الآن وهل نحن فعلا في زمن الرواية؟
المشهد الشعري الآن في أزمة حقيقية، أزمة تتعدى حدود الشعر والوسط الثقافي والنقدي، فقد بات الشعر غريبا حينما صارت اللغة غريبة، وتتجلى الأزمة حيال الشعر الفصيح الذي يعاني الآن اكتئاب مزمن، ولا يجب أن ننظر إلى هذا الأمر على اعتبار أنه أزمة لنوع من أنواع الفنون، بل يجب أن ننظر إليه على باعتباره أزمة أمة تفقد ذاكرتها ونسقها الفكري وثروتها اللغوية وأداتها في المعرفة والشعور، وأتذكر فداحة هذه الكارثة حينما أتذكر وصف نجيب محفوظ للشعر بأنه “ملك الملوك” وحينما قالوا له إنه انتصر للرواية على الشعر قال لهم إنه انتصر في الرواية بالشعر، وإن شئت الدقة فنحن لسنا في زمن الرواية بل في زمن “الريلز”.
* وهل آن الأوان أن يظهر لدينا أجيال تعادل قيمة نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحي حقي أم أن هناك بالفعل أسماء أنجزت ما أنجزه هؤلاء؟
لست من أنصار فكرة عبادة الماضي، وأرى أن لدينا العديد من الأسماء التي استطاعت أن تضع بصمتها في كل فن أدبي، ما نفتقده حقا هو التكريس لهذه الأسماء بوعي حقيقي وإيمان بالقيمة الأدبية والإنسانية التي يقدمونها، فنحن فشلة في تقديم أبنائنا، نعامل مبدعينا بالكثير من التجاهل والخذلان، ومازلنا نمارس مع أبنائنا المخلصين ما كان يمارس مع أدريان دانينوس بطل الرواية، وللأسف إذا ما نظرنا إلى ما فعله الوسط الأدبي حيال فوز الروائي محمد سمير ندا المستحق بجائزة البوكر العربية سنتأكد من أننا لا نجيد حرفة البناء، ونتفنن في حرفة الهدم.

