لا يكره الحرية إلا العبيد، ولا يقاوم نسمات الحرية إلا هؤلاء المرضى الذين يستمتعون بسياط جلاديهم ويتلذذون ببث أحزانهم وآلامهم إلى الآخرين، وكما يقول الدكتور مصطفى محمود «إن احترام حرية الرأى والسمــاحة مع وجهة النظـر المخالِفة، وسعـة الصـدر مع الخصوم.. وحب الحياة والخير والدعوة إلى البناء وكراهة الهدم.. هى علامات أهل الله وهى التى تميزهم عن الشياطين الملثمين مهما قالوا ومهما ادَّعوا ، فَخُـذوا حِذرَكُــم من هذه الموجــات التى تأتى تِباعاً ، وأنصتــوا إلى القلــوب وليس إلى زخــارف الأقــوال.. فإن النار تسـرح فى الفتيل والعالَم قـد بلـغ ذُروَة تنــاقضــه» ويقول أيضا ««إن الله أرادنا احرارا والحرية اقتضت الخطأ ولا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب، والاختيار الحر بين المعصية والطاعة وفى دستور الله وسنته ان الحرية مع الألم أكرم للانسان من العبودية مع السعادة ولهذا نخطئ ونتألم، وهذه هى الحكمة فى سماح الله».
حرية التعبير تعد إحدى الركائز الأساسية التى تقوم عليها المجتمعات المتحضرة، فهى حق أصيل يكفله الدستور وتؤيده القيم الإنسانية، ووسيلة للشعوب كى تعبر عن آرائها وتشارك فى صياغة حاضرها ومستقبلها. غير أن هذا الحق السامى لا يمكن أن يُمارَس بمعزل عن المسئولية، وإلا تحوّل إلى فوضى تهدد استقرار الدول وتضرب أسس التعايش بين الناس.
إن حرية التعبير ليست تصريحًا مفتوحًا لنشر الأكاذيب أو التحريض على العنف، ولا غطاءً للإساءة إلى الأفراد أو المؤسسات بل هى ممارسة راشدة تقوم على احترام الحقيقة، وحفظ الكرامة الإنسانية، وصون السلم الاجتماعي. فالحرية التى تتجاوز هذه الحدود ليست حرية، وإنما هى انفلات يفتح أبواب الفتن ويقوّض أسس الأمان.
التاريخ الحديث شاهد على أن الكلمة قد تكون سلاحًا أشد فتكًا من الرصاص، فإذا خرجت بلا وعى أو ضمير، أشعلت الفتن وزعزعت الاستقرار. وفى المقابل، فإن الكلمة الواعية الصادقة هى التى تصنع وعى الشعوب، وتفتح أبواب الإصلاح، وتبنى جسور الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة ، المعادلة واضحة: حرية التعبير الحقيقية هى تلك التى توازن بين الحق فى النقد وواجب الحفاظ على الامن القومى ، وبين كشف الحقائق وحماية الاستقرار. إنها الحرية التى تقف فى صف الوطن، وتضع مصلحته فوق أى اعتبارات شخصية أو مصالح ضيقة.
وفى النهاية، فإن حماية حرية التعبير لا تعنى السماح بالفوضي، بل ضمان أن تظل الكلمة أداة بناء لا وسيلة هدم، ومنبرًا للحوار لا منصة للتحريض. فالأوطان لا تُصان بالشعارات، وإنما بالوعى الذى يجعل الحرية مسئولية قبل أن تكون حقًا.