العشابون هذه الأيام أكثر عبقرية من ابن سينا والرازى وداود الانطاكى والحارث بن كلدة الثقفى وكل حكماء العرب وأطبائهم.. رغم حرصهم على الإدعاء بأن خلطاتهم السرية السحرية ووصفاتهم العلاجية العبقرية مستمدة من تجارب القدامى وحصاد خبراتهم.. وسر عبقريتهم المتفردة جدا يكمن فى الاكتشافات المذهلة التى اثروا بها المعرفة الإنسانية ومنها على سبيل المثال لا الحصر.. أن كل الأعشاب آمنة، وان التداوى بالأعشاب ليس له مضاعفات أو تأثيرات جانبية، وأن كل خيرات الأرض وكل مكونات صيدلية الطبيعة تنطبق عليها هذه الحقيقة التى ليس لها أى سند علمى أو حتى تاريخى أو أدبى.
وبالنسبة لى فأنا ألتمس لهم العذر.. فهذه هى حدود معرفتهم.. والكثيرون منهم بدأ حياته «الطبية العلاجية» من دكان صغير يبيع فيه الكمون والفلفل الأسود والكراوية.. ثم ركبوا موجة التجارة الرابحة، وأصبحوا فى غفلة من الزمن من صناع أدوية العجز والضعف والفتــور، والى جانبهــا تشــكيلة مختارة من خلطــات علاج الأمــراض التى يــدر علاجها أرباحا طــائلة، كالسرطان الذى لا يتــــورع المصــاب به عن دفــع كل ما يملك لأى شخص يمنحه بصيص أمل حتى ولو كان نصابا.
كل الأعشاب آمنة وبلا تأثيرات جانبية.. مرة أخرى نتساءل: من قال ذلك وأى أعشاب يقصدون؟. هم بالتأكيد لا يعرفون أن الكوكايين والهروين والأفيون وحشيشة الكيف.. أعشاب طبية طبيعية مائة بالمائة.. بل ولها استخدامات علاجية مذكورة فى مراجع الطب القديمة.. فهل هى آمنة تماما وليس لها مضاعفات ولا تأثيرات جانبية.. هل ينصحونا باستخدامها ونحن مطمئنون من المضاعفات وملاحقة الشرطة؟. ولماذا نذهب بعيدا.. دعونا نأخذ مثالا أكثر بساطة لعلهم يفهموه.. من منا لم يسمع عن عرق السوس أو السوس بدون عرق.. من منا لم يستمتع بمنقوعه الذى يطفئ الظمأ ويمنع العطش ويريح المعدة ويجلو الصدر ويعالج السعال.. شراب عرق السوس الذى ينتشر استهلاكه على نطاق واسع خلال شهر رمضان المبارك وخلال أشهر الصيف القائظ.. حتى لا يكاد يخلو منه بيت.. هذه العشبة التى أثبتت البحوث العلمية الحديثة احتواءها على عناصر علاجية فعالة جدا.. هل يعرف عشابونا العباقرة أن لها مضاعفات وتأثيرات جانبية إذا اسىء استخدامها شأنها فى ذلك شأن كل الادوية الكيمائية؟.. هم بالتأكيد لا يعرفون أن عرق السوس يحتوى على مواد شبيهة بالكورتيزون.. وأنه يسبب زيادة ملموسة فى عدد ضربات القلب وزيادة فى ضغط الدم ويحتفظ بالماء والأملاح فى الجسم ولذلك فهو خطير جدا على مرضى ارتفاع ضغط الدم.. وأنه يحدث نقصا فى عنصر البوتاسيوم، ولذلك يوصى العلماء «الجهلاء» الذين لا يتمتعون بعبقرية العشابين بعدم استعمال عرق السوس للمرضى الذين يعانون من ارتفاع الضغط وهبوط القلب ومشاكل الكلى والبدانة.
وتعالوا نقرأ معا ما جاء فى بعض مراجع الطب القديمة، لنعرف كيف كان أطباؤنا أو حكماؤنا القدامى يتعاملون مع الأعشاب التى كانت هى كل ما يملكون من دواء. مثلا تحدث الحكيم داود الانطاكى عن عشبة أو نبات الهالوك أو أسد العدس.. فعدد فوائده واستخداماته العلاجية وأضاف إليها انه يسبب الكرب والغثيان، ويصلحه ـ أى يقلل من تأثيراته الجانبية ـ البنفسج.. أى أن الطبيب القديم كان يذكر فوائد الأعشاب ومعها المضاعفات والتأثيرات الجانبية ولم يخرج أى منهم بفتوى الأمان الكامل لكل الأعشاب.