لم يكن أمين المخزن «س» مجرد موظف بسيط يقضى يومه بين الجرد والمفاتيح والسجلات، وشرب الشاى وتناول الافطار وسط الزملاء ،بل كان لسنوات طويلة يُضرب به المثل فى الانضباط والدقة والأمانة .. رجل خمسينى، حفر الزمن خطوطه على وجهه البشوش ، وعاش عمره كله فى شركته التى التحق بها بعد تخرجه فى الجامعة الحكومية، يحرس العهدة وكأنها ماله الخاص.. الكل يثق به، حتى المدير العام لم يكن يراجع تقاريره، يكفى أن تكون موقعة باسمه. مرت السنوات عليه ثقيلة، خاصة بعدما تخرج أولاده الثلاثة فى الجامعة وما زالوا يبحثون عن فرصة عمل ثابتة، وزوجته المريضة تنتقل بين المستشفيات بلا علاج شاف ينهى آلامها المزمنة وعريس ابنته يذكره كل يوم بموعد الزفاف الذى تأجل أكثر من مرة.. كان «س» ينظر إلى رفوف المخزن المكتظة بالمعدات، ويحدث نفسه بصوت لا يسمعه الا هو :»حاجات راكنة من سنين، ولا بيسأل عليها ولا بيستخدمها أحد .. وأنا مش لاقى أجيب دوى مراتي! وأستر بنتى. فى البداية، قاوم الفكرة بثبات.. لكن الضغوط كانت تزداد، والاحتياجات تتضاعف والهموم تتراكم وفى يوم خريفى كئيب، قرر أن يتخذ أسوأ قرار فى حياته، قرر يُطفئ ضميره مؤقتا ، ويجرّب أن «يأخذ قطعة واحدة»… ويبيعها لتاجر خردة يعرفه. مرّ الأمر بسلام، ويسر ولم يلحظ أحد شيئًا.. قطعة بعد قطعة، وبدأت المياه تجرى بين يديه وجهز الابنة وحدد موعد الزفاف ،ونقل زوجته الى مستشفى كبير نجح فى تخفيف آلامها وعمل مشروعا صغيرا لابنائه..فى نفس التوقيت الذى بدأ المخزن يفرغ، شيئًا فشيئًا. تفكيره الشيطانى هداه إلى كتابة تقاريره المعتادة بلغة الخداع والطمس: «محول تالف – مروحة متهالكة – كابل خارج الخدمة».. «بضاعة أتلفها الهواء» لم يسلم الحال طويلا فقد بدأت مظاهر المال الحرام تزعجه ، ينام بصعوبة، ويستيقظ مذعورًا على كوابيس «السجن والفضيحة»، لكنه كان دائما يُسكِت تلك الهواجس ويطمئن نفسه: «دى حاجات راكنة!» ومحدش بيسأل عليها.. وهي جت عليا» لكنّ دوام الحال من المحال، ربنا رزقه بمحاسب جديد فى الشركة، لم يكن مثل باقى الموظفين.. كان فضوليًا، يحب النظام، ولا تعجبه التقارير الجاهزة .. طلب يومًا أن يرى ما سطر فى التقارير حول بعض القطع المصنفة على أنها «تُلفة»، فذهب إلى المخزن ففوجئ أن الرفوف خالية. استفسر، فتهرب منه «س»، ووجه له كلمات قاسية وسط العمال، بل وطرده من الموقع مستغلا تزاحم «شلته» وعدم تواجد أحد من القيادات . الشك نبت فى قلب المحاسب الجديد.. وبدأ يُدوّن ملاحظاته، ويقارن بين التقارير والمخزون، ثم قرر أن يرفع مذكرة للجهاز الذى يعمل به ، لم يتّهم فيها أحداً، لكنه طالب بلجنة جرد عاجلة..وجاء اليوم الموعود. دخلت اللجنة التى أرسلها «الجهاز» برئاسة وكيل وزارة وعدد من الفنيين ومحاسب فجأة، وبدأت العدّ، قطعة قطعة، سجل ده وده ، وعين «س» تزوغ، وعرق بارد يتصبب من جبينه.. حاول أن يستأذن، يهرب، يختفى. فى النهاية لم يجد ما يبرر النقص الحاد، ولا تلك السجلات التى كتبها بيده.. سقط «س» سقوطًا مدويًا، لا فقط فى أعين زملائه، بل فى عينيه هو أولًا..بكى أمام اللجنة،وندم بعد فوات الأوان . أُحيل إلى التحقيق، وتم إبلاغ النيابة، وأُوقف عن العمل.. حاول البعض التوسط له، لكن المحاسب رفض وأصر على أن يتحمل «س»العقوبة كاملة، وكأنه أراد تطهيره من نفسه. انتشرت القصة فى الشركة، وأصبحت عبرة للجميع ،لم يُشمت فيه أحد، لكن الكل تحدث عن النهاية المؤلمة لرجل خان لحظة ضعفه أمانة دامت سنوات. أما «س»، فقد باع كل ما يملك لكى يسدد قيمة العجز المالى .. وشوهد بعدها بشهور وهو يعمل فى محل صغير لبيع الأدوات الكهربائية، يرتب البضائع بهدوء، ويعطى الفاتورة بابتسامة حزينة، وكأنه يكتب كل مرة اعتذارًا جديدًا… لا لأحد، بل لنفسه أولًا.