كجلمود صخر ثقيل جاثم على الصدور، يمر يوم بلوغ سن الثامنة عشرة على بعض الشباب، فهو بمثابة إعلان انتهاء إقامتهم الطويلة فى دور الرعاية البديلة، التى كانت، بحكم ظروفهم القهرية، بيتهم الوحيد منذ أن فقدوا ذويهم أو تم إيداعهم فيها.
وبينما يحتفل أقرانهم بهذه المرحلة كبداية لتحقيق الذات، ومزيد من الحرية والانفتاح، يعيش أبناء دور الرعاية فى هذا السن مشاعر مختلطة بين القلق من الحاضر والغد، والخوف من المجهول، والبحث عن إجابة لسؤال مفصلى: إلى أين نذهب بعد الآن؟
قادنى القدر لتلقى دعوة كريمة من صديقى هانى موريس ـ أحد القيادات الملائكية فى إحدى المؤسسات الأهلية ـ لحضور مؤتمر حول معاناة الشباب بعد خروجهم من دور الرعاية الاجتماعية لبلوغهم سن 18 عاماً. وضعتنى هذه الدعوة أمام إشكالية حقيقية حملتنى همومًا جسيمة، دفعتنى للبحث عن حلول.
ففى معظم الحالات، يُطلب من الشاب أو الفتاة مغادرة دار الرعاية بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشرة، حيث تنتهى صلتهم القانونية بالرعاية، وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية لشاب أو شابة بلا سكن، بلا دخل، وبلا دعم نفسى كاف. يخرجون إلى مجتمع قاسٍ، دون شبكة أمان تحميهم. بعضهم ينتهى به الحال إلى الشارع أو السجن، أو ينخرط فى أعمال غير مستقرة أو غير قانونية. هم بالمئات سنويًا، دون وجود آلية شاملة وممنهجة لإعادة دمجهم فى المجتمع.
حتى اللحظة، لا يوجد استعداد كافٍ لمستقبلهم، باستثناء بعض الجهود الأهلية المحدودة التى تستوعب العشرات فقط. وفى أغلب الأحيان، يُنظر إليهم بنظرة دونية تُصعّب دمجهم فى المجتمع أو حتى حصولهم على فرص عمل عادلة.
هؤلاء الشباب ليسوا مذنبين، ولم يختاروا مصيرهم. إنهم ضحايا لظروف خارجة عن إرادتهم. لذا يجب أن نعمل على تصحيح النظرة المجتمعية وتعزيز ثقافة «الرعاية اللاحقة». كما أن التشريعات الحالية بحاجة إلى تعديل، لتُلزم الدولة بتوفير برامج دعم تمتد حتى سن 21 أو 24 على الأقل، وتشمل سكناً انتقالياً، وتدريباً مهنياً مكثفاً، ودعماً نفسياً واجتماعياً، وإعانات مالية مؤقتة. والأكثر إلحاحاً، تخصيص نسبة من فرص التشغيل لهم فى المؤسسات العامة والخاصة، أسوة بنسبة الـ 5 ٪ المخصصة لذوى الاحتياجات الخاصة. فهم أيضاً أولى بالرعاية، ويجب دعم مشاريع ريادة الأعمال الخاصة بهم.
الحل لا يكون فى توسيع دور الرعاية فقط، بل بإنشاء وحدات رعاية انتقالية مدعومة من الدولة، يشرف عليها متخصصون فى علم الاجتماع وعلم النفس، لمرافقة هؤلاء الشباب فى مرحلة الانتقال من الرعاية إلى الاستقلال.
فى بعض الدول الأوروبية، تمتد رعاية الدولة للأطفال حتى سن 21 أو حتى 25، مع توفير السكن وفرص التعليم والدعم النفسى. وفى المغرب وتونس، تم تطوير تجارب «الاستقلال الموجّه» التى تتيح للشباب الإقامة فى وحدات سكنية شبه مستقلة مع استمرار الدعم الاجتماعى.
وهنا أؤكد: نحن لا نختار آباءنا، ولا ظروف ولادتنا، لكننا جميعاً نستحق فرصة لبداية جديدة كريمة.
أبناء دور الرعاية لا يحتاجون إلى الشفقة، بل إلى العدالة والتمكين والدعم المؤسسى الحقيقى. فـالاستثمار فى هؤلاء الشباب ليس فقط عملاً أخلاقياً، بل استثمار فى رأس مال بشرى مهدر.. تخيلوا كم من المبدعين والطموحين فقدناهم لأنهم خرجوا من دار رعاية إلى الهلاك. لقد آن الأوان لنعمل جميعاً على حقهم فى بداية تليق بإنسانيتهم.