فى لحظة مفصلية من التحول الاجتماعى، لا يُقاس تأثير القوة بمدى ارتفاع الصوت، وإنما بمدى عمق المعنى، لكننا نعيش الآن زمناً تبدّلت فيه القواعد، وصعدت إلى السطح ظواهر ما كان لها أن تتجاوز الهامش، لولا فراغٌ فكريٌ، وغيابٌ للقيمة، واستسلامٌ جماعى لمنطق «المشاهدات» لا «الرسائل».
ظاهرة «التيكتوكرز» و«البلوجرز» الذين يقدّمون محتوى اللاشىء، بلا مضمون، بلا فكرة، بلا حتى احترام للعقل أو الذوق أو الحياء، ليست مجرد صدفة، بل هى نتاج زمن ساد فيه الصخب على الفكرة، والتفاهة على المعنى.
صراخ، رقص، إيحاءات، خروقات للقيم، تجريح للمجتمع، وتشويه لصورة المرأة والرجل على السواء.. كل ذلك يُقدَّم على موائد رقمية تلتف حولها الجماهير، فى مشهد عبثى يُقال عنه إنه «ترفيه»، لكنه فى حقيقته تفريغ ممنهج للوعى العام.
والأخطر أن هؤلاء لا يجنون فقط الشهرة، بل يجنون معها أموالاً طائلة، إن بعضهم – بالأرقام لا بالظنون – يحقق فى بث مباشر واحد دخلاً قد يصل إلى مليون جنيه مصرى أو أكثر، ليس لأنه قدّم اختراعًا، أو ألّف كتابًا، أو حتى أدار نقاشًا جادًا، بل لأنه ببساطة عرف كيف يستفز غرائز الملل، ويخاطب اللاوعى بالصراخ والابتذال.
لكن هذا الانفلات لم يكن ليطول دون رادع، ولعل ما يُحسب للمؤسسات الأمنية فى مصر – وعلى رأسها وزارة الداخلية – أنها بدأت التحرك الحاسم ضد بعض من هؤلاء، ممن تجاوزوا كل الخطوط، ليس فقط الأخلاقية، بل القانونية أيضًا.
فتم القبض على عدد من صُنّاع هذا «المحتوى الهدّام»، بتهم تتعلق بـ»خدش الحياء العام»، و«بث محتوى مخل»، و«تحقيق أرباح غير مشروعة عبر وسائل غير مرخّصة»، وهى خطوة تأخرت، لكن حين جاءت، كانت بمثابة رسالة تحذير واضحة: أن الوطن لا يمكن أن يُدار من شاشات الهواتف المحمولة، ولا يجوز أن يُترك مستقبل أبنائه رهينة لهؤلاء اللاعبين بالنار.
إنّ القبض على هؤلاء لا يجب أن يُفهم باعتباره استثناءً، بل بداية لمرحلة تطهير الوعى العام من ظواهر هجينة لا تنتمى إلى ثقافتنا، ولا تعبّر عن عمق هذا البلد ولا عن تاريخه.
لقد قال جمال عبدالناصر ذات مرة: «الحرية لا تعنى الفوضى.. وإنما تعنى المسئولية»، واليوم، نحن أمام مسئولية مشتركة، بين الدولة، والمجتمع، والأسرة، وحتى صُنّاع المحتوى الجادّ، لإعادة تعريف ما يُسمى بـ»النجاح الرقمى».
إنّ مواجهة هذه الظاهرة لا تكون فقط بالعقاب، بل الأهم أن تُبنى منظومة إعلامية وتربوية وثقافية بديلة، تصنع قدوة حقيقية، وتجعل من الكلمة مسئولية، ومن الشهرة ثمرة للموهبة لا للابتذال.
إن كل عصر يفرز ظواهره.. لكن ليس كل عصر يُجبر على الصمت.
واليوم، على هذا الجيل أن يختار: إما أن يكون صاحب قضية، أو مجرد مشاهد فى مسرحية عبثية يديرها من لا يملكون شيئًا سوى الضجيج.