مصر لا تهتز لبضع مظاهرات ضالة أمام بعض سفاراتها هنا وهناك
ومصر لا تفقد بوصلتها الوطنية والقومية تأثرا ببضعة تصريحات وادعاءات مضللة، من هذا المصدر أو ذاك.
ولدينا مثل شعبى يقول: «إذا عُرف السبب بطُل العجب».. ومصر تعرف من يحرك، ومن يمول، ولماذا الآن بالتحديد.
ثم إن مواقف مصر من القضية الفلسطينية ثابتة ومعلنة، وليست ولا يجب أن تكون موضع اتهام أو دفاع.
وشهود هذه المواقف من أرض الواقع على مدى اثنين وعشرين شهرا مضت حتى الآن هم رموز المجتمع الدولي، الذين زاروا معبر رفح من الجانب المصري، وعاينوا وعاشوا الوضع فيه على الطبيعة، وعلى رأسهم جوتيريتش «السكرتير العام للأمم المتحدة» وكوكبة من زعماء دول مختلفة فى العالم.
الأمر كله يعود إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو، الذى يعانى أزمة داخلية وعالمية وشخصية غير مسبوقة ولا يجد حلاً غير محاولته تصدير أزمته للآخرين.
أتذكر أنه فى مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، ومع اقتراب الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر أصيب نتنياهو بما يشبه الهستيريا.
كان يحلم بأن يحتفل الإسرائيليون معه فى هذه الذكرى بالنصر على المقاومة الفلسطينية فى غزة وانتهاء الحرب، وعودة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين إلى عائلاتهم، وهى الأهداف الثلاثة التى وعد بتحقيقها.
لكنه فوجئ بأن حلمه الكبير يتبخر، وأن الوقت يداهمه ولا شيء من أهدافه ووعوده قد تحقق رغم أنه لم يقصر فى استخدام كل جيشه فى عمليات القتل والتدمير ضد المدنيين فى غزة، وفى الضفة الغربية أيضاً.
وأنه حارب بكل ترسانة أسلحته، مدعمة بجسر جوى أمريكى ينقل إليه ما يطلبه من عتاد، ومحاطا بمدمرات وحاملات طائرات وبوارج أمريكية تحت الطلب لتسهيل مهمته بل إنه فوجئ أيضا بصدور قرار محكمة العدل الدولية بلاهاي، فى قضية اتهامه بحرب إبادة جماعية فى غزة، وهى القضية التى بادرت برفعها دولة جنوب افريقيا أمام المحكمة، ووجدت مساندة عالمية رسمية وشعبية.
ولم يكن نتنياهو قادرا على الاعتراف بالواقع ومواجهة الإسرائيليين بالفشل، لأسباب تتعلق بشخصيته رغم أن ذلك كان الحل الأقل تكلفة بالنسبة لإسرائيل وكان هناك قرار لمجلس الأمن صدر وقتها يمكن أن يوفر غطاء له.
واضطر نتنياهو وقتها إلى الهروب من غزة، وسحب قواته منها، وفتح جبهة قتال جديدة، هى الجبهة اللبنانية للقضاء على حزب الله الذى كان يمثل جبهة المساندة العسكرية للمقاومة فى غزة.
يبدو أن هستيريا السابع من أكتوبر قد عادت لتهاجم رئيس الوزراء الإسرائيلى فى نفس توقيت الذكرى الأولى تقريبا.
ميدانيا، يجد نتنياهو نفسه فى ذات الموقف الذى عانى منه قبل عام.. فلا قضى على المقاومة الفلسطينية، ولا أعاد الرهائن المحتجزين فى غزة إلى ذويهم، ولا هو قادر على إنهاء الحرب.
رغم التصعيد المفرط الذى مارسه، ومازال، طوال العام فى حرب الإبادة والتجويع، والتهجير، والذى واجهه الفلسطينيون بمزيد من الصمود المذهل تمسكا بأرضهم ودونها الموت قتلا بالرصاص أو بالتجويع.
وهو تصعيد يصيب إسرائيل فى مقتل، وهو ما يشعر نتنياهو به بالتأكيد لكنه لا يعرف كيف يوقفه، أو لا يريد أن يدفع هو شخصياً ثمنه.
فكلما أوغل نتنياهو فى حرب الإبادة والتجويع والتهجير فقدت إسرائيل ما تبقى لها من هيبتها وصورتها أمام الرأى العام العالمي، بل ولدى أقرب حلفائها.
إن الجانب الإنسانى فى هذه الحرب الآن وما يشاهده العالم من قتل الأطفال أثناء انتظارهم تلقى الطعام، أصبح يشكل أكبر عنصر ضاغط على الضمير العالمي، ودافعا لأقرب حلفاء إسرائيل للنأى بأنفسهم عنها.
الواضح أن شعوب أوروبا، والشعب الأمريكى يدركون الآن أن ما تقوم به إسرائيل فى غزة والضفة يلوث قيم الحضارة الغربية.
وأن كثيرا من المدافعين عن السامية لم يعودوا قادرين على تحميلها بجرائم إسرائيل ضد الإنسانية ويسعون إلى فك الارتباط معها.
هذا غير ما يحدث فى الجبهة الداخلية الإسرائيلية من تفكك يقترب من الانهيار خلافات عميقة وعلنية بين العسكريين وقادة وجنود وبين نتنياهو وصقوره المفضلين الذين يحاولون فرض قرارات يراها العسكريون غير قابلة للتنفيذ أو مكلفة أو ليست فى صالح إسرائيل.
المعارضة لاستمرار الحرب بلا أى أفق واضح يقترب بها من تحقيق أهدافها المعلنة، أصبحت قاسما مشتركا بين الأحزاب السياسية وعائلات الرهائن وجانبا من القاعدة الشعبية.
الأخطر من ذلك كله، أنه قبل اسبوعين من حلول السابع من أكتوبر هذا العام ستشهد الجمعية العامة للأمم المتحدة التى ستنعقد فى دورتها العادية السنوية أكبر موجة من الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية ومن أقرب حلفاء وداعمى إسرائيل.
وهذا ما يجعل هستيريا نتنياهو هذا العام مضاعفة
إسرائيل التى لا تقهر تتآكل.. بينما الدولة الفلسطينية تسطع بدماء الشهداء من بين الأنقاض.